"كده زي ما هيّ"!

01 يناير 2015

الأغاني قادرة على شرح أعقد الأفكار

+ الخط -

إذا كانت الكتب وأفكارها قد خذلتك في الأعوام الماضية، فلماذا لا تجرب، هذا العام، أن تستعين بالأغاني.
لا تستهن، أبداً، بقدرة الأغاني على تكثيف وشرح أعقد الأفكار وأكثرها تركيباً. دعنا نتذكر، مثلاً، أن الشاعر الغنائي، مأمون الشناوي، ربما كان أبرع وأقدر من الفيلسوف زكي نجيب محمود، في تكثيف الكثير من مبادئ فلسفات عملية، مثل الوضعية المنطقية والبراغماتية، حين قال في أغنيته (يوم من الأيام) على لسان عبد الحليم حافظ: "لو كان الدمع يجيبه كنت أبكي العمر عليه"، وهو معنى كان قد سبقه إلى تكثيفه الحكيم الشعبي المجهول، الذي أكّد على أهمية الإعلاء من شأن جدوى الأشياء، وارتباطها بفائدة ممكنة التحقق، ولو بعد جهد جهيد، لكي لا يغدو السعي نحوها وهماً، يضيع فيه العمر سدى، وذلك حين قال "إردب ما هو ليك ما تحضر كيله تتعفر دقنك وتتعب في شيله".
لاحظ أن هذا المثل الشعبي يدعو إلى العملية المرتبطة بحلم قابل للتحقق، ولكن، بشكل منضبط ومترفع، فهو لم ينزلق لدناءة المعنى الوارد في مثل "ارقص للقرد في دولته"، ولا لوساخة ذلك المثل الذي يؤمن أنه "إن كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيدي"، فكما تعلم، هناك شعرة، دائماً، تفصل بين الأشياء ونقائضها، فثمة شعرة تفصل الرومانسية عن العَبَط، وشعرة أدقّ تفصل العملية عن الانتهازية، وهو ما يجعل بعض العمليين يوصفون ظلماً بالانتهازية، خصوصاً حين يفشلون في صياغة قراراتهم العملية، وإظهار حسن نياتهم بشكل واضح، لا يجلب استياء أولي الألباب.
لذلك، عليك أن تتذكر دائماً أهمية الصياغة النهائية للقرارات، أو الصياعة النهائية، إن شئت، أن تكون قذراً في واقعيتك، فبها وحدها استطاع كثيرون تمرير وجود المتناقضات التي كانت، وستظل، جزءا لا يتجزأ من تعقيد التركيبة البشرية، وهو أمر لم يخلُ منه مأمون الشناوي نفسه، وإلا لما جمع في أغنية واحدة بين فكرة عملية تدرك عبث البكاء على الحبيب المسكوب، واستمرار البكاء عليه، برغم أنه "لا عاد يفيد ندم عليه ولا ألم".
سيكون من المهم، وأنت تخوض عاما صعبا جديدا، أن تتذكر أن الأشياء ليست دائما كما تبدو عليه بالضبط. لذلك، ليس عليك إلا أن تحاول جعل الأشياء أقرب إلى ما ترغب في أن تبدو عليه، مع تذكر أنها لن تصبح كما ترغب، لمجرد أنك رغبت في ذلك، أو لأنك حاولت. ومع ذلك، عليك أن تجعل من شرف المحاولة غاية مناك ومنتهى أملك، ولا تربط نفسك أبداً بتحقق النتائج، لأن ذلك سيورطك في التماهي مع ما ترغب في حدوثه، وسيصعب عليك إيجاد خط فاصل بينك وبينه، وهو ما يجعل بعضهم يفضل تشجيع القضية المنتصرة، ولو كانت باطلاً، على الدفاع عن القضية العادلة، حين ينفض من حولها الناس، وحين يصبح الالتزام بالدفاع عنها سبباً في تعكير صفو حياته، ولعل ذلك هو التفسير الأكثر منطقية لتلك التحولات المزرية، التي قام بها أناس كنا نظنهم يؤمنون بمبادئ العدل والحرية، قبل أن نكتشف أنهم كانوا مع تلك المبادئ، فقط لأنها كانت تبدو مرشحة للانتصار، فلما بدا أن طريقها طويل وصعب وغير مضمون، فضلوا عليها ما يناقضها. 
إلى الأغاني أعود، وبها أختم هذا التأمل السريع في "هرتك" الحياة، متأملاً معك كيف تفوق عمنا مأمون الشناوي على فلاسفة الكون قاطبة، حين جاب "تيتة" الحياة التي حاول كل منهم أن يجيء بها على طريقته، في قوله على لسان سعد عبد الوهاب: "الدنيا ريشة في هوا.. طايرة بغير جناحين.. إحنا النهارده سوا..وبكره هنكون فين في الدنيا.. ياللي بتسأل عن الحياة.. خدها كده زي ما هيّ.. فيها ابتسامة وفيها آه.. وفيها قسوة وحنية"، ولعلك لا تظن أن رجلاً، بخبرة و"تودّك" مأمون الشناوي في الحياة، يمكن أن يستخدم تعبير "خُدها" عبثاً. لاحظ أنه لم يحدد لك أين يجب أن تأخذ الحياة ولا كيف، لأن خصوصية حياة كل إنسان تتوقف على طريقة أخذه للحياة، ويا بخت من كان لديه القدرة على أن يأخذ الحياة في أحضانه، ليحتملها على علاتها، ويا زين من أخذ الحياة على قد عقلها فحملها فوق كتفيه، إن لزم الأمر، لتحملها هي حين ترضى عنه، ويا شقاء من أعطى الحياة أكثر مما تستحق، فأخذها على صدره، أو استهان بقدرها، فانتهى به الأمر، وقد أخذها رغماً عنه، في موضع آخر لا يطيب ذكره، ولا حتى التفكير فيه.
كل سنة وأنت تأخذ الحياة "كده زي ما هيّ".

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.