الكثير من زجاجات البيرة وسرعة الغضب وقطْع الحوار والكراهية والبغض تملأ الدقائق السبع عشرة من "لعنة المضرب"، الفيلم الأخير للمخرجة الدنماركية إيلا راسموسن، حيث تتنقل الكاميرا وبحركات سريعة بين مشاهد الدماء والعنف الجسدي في مساءات البلد، لتأخذ المشاهد إلى دواخل شخوص اليمين المتطرّف وتيه هويته التي يستعيض عنها الشريط بمزيد من العنف.
يبدأ العمل بمشهد اعتداء عنصريّين على شاب أسود، كونه "ليس دنماركياً"، وعليه "الرحيل من هنا إلى بلاد القرود"، وهو ما يُقدّم فكرة عن خيارات المخرجة بالغوص في تفاصيل العنصرية في المجتمع الدنماركي.
تدور أحداث الشريط حول ثلاثة أصدقاء يقرّرون مساء أحد الأيام الانطلاق نحو المدينة. قبل ذلك، لا بدّ من شرب البيرة، استعداداً لسهرة طويلة، لتوفير ثمن المشروبات المرتفع في البارات من جهة، وللانتشاء من جهة أخرى. لا يأخذنا الحوار الذي يدور بين الشبّان إلى نقاش ذي مغزى فكري أو ثقافي. هو فقط حوار حول الالتقاء بالفتيات لقضاء سهرة معهن، وعن "الآخر"، الذي يُذكَر بعبارات شديدة الكراهية: "بيركا" شديد المقت للمهاجرين أو "سيارات الخنازير" إشارة إلى المثليين.
أحد الشبّان الثلاثة يؤيّد مجموعة عنفية تُدعى "وايت برايد" (White Pride)، يُظهِر وشمه الجديد، الدال على الافتخار بالعرق الأبيض، والذي يشبه صليباً معقوفاً، رمز الحركات النازية الجديدة في أوروبا. يسأل أحدُ الصديقين: "شيء جميل جدّاً. هل آلمك الوشم؟"، بينما تظهر على الثاني (يانيك) ملامح تشي بالصدمة. لكن صاحب الوشم، وبنبرة شبه تهديدية، يحاول معرفة رأيه في وشمه العنصري، قبل أن يشرب نخبه. الخطر الذي خيّم على الغرفة بنظراتٍ متوجّسة لثوان، كأنه زال في اللحظة نفسها، لكن التشنّج يبقى سيّد الموقف خلال التقاء الأصدقاء، ومحاولات يانيك التأقلم مع تلك البيئة العنيفة.
تعكس أحداث الفيلم، على قلّتها، حالة واقعية وراهنة في أجواء اليمين المتشدّد المتنامي في المجتمعات الأوروبية. فنحن أمام صديق معني بالانتماء لهذا اليمين، وآخر يساير الوضع بالصمت كموقف سلبي. إنه عملٌ تقوم فكرته، أساساً، على خلق حالة اتّخاذ موقف؛ فبين مشاهد التهديدات والعراك الدموي والمطاردات في الشوارع، يظلّ دائمًا محور العمل هو ذلك الصديق الصامت، حتى حين يُسأل من هارب من عنف اليمين: "وأنت ما الذي تحارب من أجله؟"، لا يملك سوى أن يُجيب بأنه راضٍ بوضعه. لكأن القصة تدور حول حرب أفكار.
يانيك، في حقيقة الأمر، ليس بدنماركي إثنياً، وهو يحاول عبر صبغة الشعر والعدسات اللاصقة أن يبدو كذلك. وصمته على العنصرية وعنفها تعبير عن استراتيجية البقاء، من خلال إنكار الذات والمحيط. أصدقاؤه، لا شكّ، عنصريون عنيفون يصاحبون واحداً من "الأقلّيات" من دون أن يُدركوا أنه كذلك. هو لا يستطيع التعبير عن رفض ولا قبول تصرفاتهم إلا في المشهد الأخير. إنه تعبير آخر عن عجز تام، عجز شخصي وشامل في المجتمع، حين يتعلّق الأمر باتخاذ موقف، وخصوصاً بالنسبة إلى من ينتمي إلى "الأقلّيات"، ويريد أن يكون صديقاً لأبناء الأغلبية.
ينتهي الفيلم بعد مطاردة المجموعة مثليّاً يحتمي بشقّة يانيك. هنا تظهر مشاهد مبتذلة لتقليد الدنماركيين، من خلال ملصقات ورموز دنماركية، ليكون واحداً من الجماعة. لكنه ينتهي بضرب مجسّم صغير يشير إلى القومية الدنماركية.
حين عُرض العمل نهاية آب/ أغسطس الماضي في "مهرجان أودنسه السينمائي"، ورغم أنه نقل صورة واقعية عمّا يدور في المجتمع الدنماركي، لم يُثر جدلاً كأفلام راسموسن السابقة، ربما بسبب قصره، غير أنه أضاء كثيراً على مسائل غياب الحوار وحضور العنف العنصري والأحكام المسبقة وكراهية الذات والآخر، كمدخل إلى إعادة التفكير في الوجهة التي تسير إليها مجتمعات يتصاعد فيها العنف اليميني المتطرّف.
تبقى الإشارة إلى أن التلاعب اللغوي في عنوان الفيلم لا يبدو بريئاً، فـ "بات" (bat)، مثلاً، وإضافةً إلى مضرب (يستخدمه العنصريون في هجماتهم) تعني الخفّاش. لعلّ الكلمة تعني هؤلاء الشباب الذين يذرعون مساءات الدنمارك، مترصّدين أجنبياً أو مثلياً.. أو أيّ شخصٍ يمثّل الآخر.