29 أكتوبر 2024
"ماتش" لبنان الأخير ضد الحرية
كنتُ، في زياراتي الأولى إلى البلدان العربية، أُذهل من أمرٍ بعينه، هو ضرورة كفّ الفم عن ذكر رأس الهرم بالسوء، مع احتمال ممارسة نقد محدود في بعض الأحيان، يطاول الأعوان وأداء الوزراء.
حدث ذلك، حين زرت المغرب للمرة الأولى تحت حكم الملك الحسن الثاني. كنت في سنتي الجامعية الأولى، وقد ذهبت إلى الرباط للمشاركة في مهرجانٍ للشباب، في عرض مسرحيّ. أذكر جيّدا التنبيهات العديدة التي جاءتني من الأصدقاء المغربيين بضرورة التنبّه لما أقول، فهذي ليست بيروت، وهنا، في الرباط، ثمّة انفراج بسيط يتيح انتفاد أداء الحكومة، مع حظر تام لإمكانية ذكر جلالة الملك بأي نقد أو سوء.
وحدث ذلك أثناء زيارتي لسورية حافظ الأسد التي كنت أضطر إلى النزول في مطارها بسبب إقفال مطار بيروت، في أثناء رحلاتي من باريس إلى لبنان، فأستفيد من زيارة الأصدقاء والبقاء فيها يوما أو يومين، قبل التوجّه إلى بيت الأهل. أذكر أننا كنّا كثرا في سيارةٍ اتسّعت غصبا عنها لعددنا الكبير، وأن الوقت كان ليلا، والقمر لم يكن بدرا، وأني كنت جالسةً في المقعد الخلفي، وسط الراكبين الموزّعين على يميني وعلى يساري. قال لي أحدهم: أترين هذا القصر الذي إلى يميننا؟ إنه قصر الرئيس. رفعت إصبعي الصغيرة جدا، مشيرة إلى البناء الذي بالكاد تميّزته في العتمة، سائلة: أهو هذا؟ فانهالت الأيادي كلها قمعا وتحذيرا وخفضا للإصبع المجنونة التي تجرّأت وارتفعت، لتشير إلى ما لا يصحّ أن يُشار إليه، ولو من البعيد، وفي عتمةٍ حالكة.
في هاتين الزيارتين، وفي زياراتٍ تالية لبلدان عربية أخرى مثل مصر، وليبيا، وتونس، وسواها، وجدت الخوف نفسه مسيطرا على الأفئدة والعقول، وإنْ بعياراتٍ وتركيزات مختلفة، وكنتُ، إذ أرجع إلى لبنان المدمّر، بفعل حروبنا الأهلية الصغيرة، المفتقد أي حدّ أدنى من الحياة اللائقة السويّة، والغائص في تجربة الموت في أقسى أشكاله، أبقى مرتاحةً إلى حريّة التنفّس، وإمكانية التعبير عمّا يسيئنا في مواقف زعمائنا ونوابنا ورؤسائنا. أجل، كان لا يزال متاحا للمواطن اللبنانيّ، حتى وقت قريب، إمكانية شتم زعاماته وحكومته، ولومهم والسخرية منهم، وتوجيه اللوم إليهم، على أكثر من مستوى، مع الإدراك أنه لن يكون لذلك كله كبير تأثير. على مستوى آخر، كان متاحا للصحافيين والمحللين السياسيين أن يتناولوا الأوضاع السياسية مع انتقاد أداء أي مسؤول، إلى حدٍّ راح سقفه يتهاوى عاما بعد عام. وفي الحالتين، الشعبية والنخبوية، كان المسؤولون يعتبرون ذلك هامشا للتنفيس، يغضّون النظر عنه، وضريبةً يدفعونها لقاء كل ما بلغوه من اهتراءٍ وفسادٍ وتزوير وارتهان وسرقات.
اليوم، هناك رؤساء أحزاب تحوّلوا إلى رموز مقدّسة، لا يمكن المساس بها، وإلا انطلق رصاص الاعتراض من كل حدبٍ وصوب، وقامت الدنيا ولم تقعد. ومن لم تجُز له صفةُ القدسية صار يعاقِب بالسجن، بتهم القدح والذم، من يضع ضده تعليقا، لا أكثر، على وسائل الاتصال الاجتماعي. هذا ما جرى للصحافي فداء عيتاني الذي حُكم عليه غيابيا بالحبس أربعة أشهر، وبدفع غرامةٍ بقيمة عشرة ملايين ليرة، على خلفية تعرّضه لوزير الخارجية اللبناني، وتعليقه بعبارة "بلد بيسوى جبران باسيل إنتو أكبر قدر". عقوبة فداء عيتاني، وآخرين سواه، درسٌ يُعطى لمن تسوّل له نفسه التعدّي على قامات لبنان ومقاماته، بدليل أن الرجل صار "لاجئا سياسيا في بريطانيا، بفعل الاضطهاد"، كما صرّح للزميلة "النهار".
وعلى هامش المونديال، لا بد من القول إن الحرية قد خسرت مباراتها الأخيرة في لبنان، وخرجت نهائيا من المباريات. وإني، لا، لم أشاهد مقابلة زياد الرحباني على قناة المنار، مع أني علمتُ بموعدها، ولم يكن لديّ ما يشغلني عن حضورها ...
حدث ذلك، حين زرت المغرب للمرة الأولى تحت حكم الملك الحسن الثاني. كنت في سنتي الجامعية الأولى، وقد ذهبت إلى الرباط للمشاركة في مهرجانٍ للشباب، في عرض مسرحيّ. أذكر جيّدا التنبيهات العديدة التي جاءتني من الأصدقاء المغربيين بضرورة التنبّه لما أقول، فهذي ليست بيروت، وهنا، في الرباط، ثمّة انفراج بسيط يتيح انتفاد أداء الحكومة، مع حظر تام لإمكانية ذكر جلالة الملك بأي نقد أو سوء.
وحدث ذلك أثناء زيارتي لسورية حافظ الأسد التي كنت أضطر إلى النزول في مطارها بسبب إقفال مطار بيروت، في أثناء رحلاتي من باريس إلى لبنان، فأستفيد من زيارة الأصدقاء والبقاء فيها يوما أو يومين، قبل التوجّه إلى بيت الأهل. أذكر أننا كنّا كثرا في سيارةٍ اتسّعت غصبا عنها لعددنا الكبير، وأن الوقت كان ليلا، والقمر لم يكن بدرا، وأني كنت جالسةً في المقعد الخلفي، وسط الراكبين الموزّعين على يميني وعلى يساري. قال لي أحدهم: أترين هذا القصر الذي إلى يميننا؟ إنه قصر الرئيس. رفعت إصبعي الصغيرة جدا، مشيرة إلى البناء الذي بالكاد تميّزته في العتمة، سائلة: أهو هذا؟ فانهالت الأيادي كلها قمعا وتحذيرا وخفضا للإصبع المجنونة التي تجرّأت وارتفعت، لتشير إلى ما لا يصحّ أن يُشار إليه، ولو من البعيد، وفي عتمةٍ حالكة.
في هاتين الزيارتين، وفي زياراتٍ تالية لبلدان عربية أخرى مثل مصر، وليبيا، وتونس، وسواها، وجدت الخوف نفسه مسيطرا على الأفئدة والعقول، وإنْ بعياراتٍ وتركيزات مختلفة، وكنتُ، إذ أرجع إلى لبنان المدمّر، بفعل حروبنا الأهلية الصغيرة، المفتقد أي حدّ أدنى من الحياة اللائقة السويّة، والغائص في تجربة الموت في أقسى أشكاله، أبقى مرتاحةً إلى حريّة التنفّس، وإمكانية التعبير عمّا يسيئنا في مواقف زعمائنا ونوابنا ورؤسائنا. أجل، كان لا يزال متاحا للمواطن اللبنانيّ، حتى وقت قريب، إمكانية شتم زعاماته وحكومته، ولومهم والسخرية منهم، وتوجيه اللوم إليهم، على أكثر من مستوى، مع الإدراك أنه لن يكون لذلك كله كبير تأثير. على مستوى آخر، كان متاحا للصحافيين والمحللين السياسيين أن يتناولوا الأوضاع السياسية مع انتقاد أداء أي مسؤول، إلى حدٍّ راح سقفه يتهاوى عاما بعد عام. وفي الحالتين، الشعبية والنخبوية، كان المسؤولون يعتبرون ذلك هامشا للتنفيس، يغضّون النظر عنه، وضريبةً يدفعونها لقاء كل ما بلغوه من اهتراءٍ وفسادٍ وتزوير وارتهان وسرقات.
اليوم، هناك رؤساء أحزاب تحوّلوا إلى رموز مقدّسة، لا يمكن المساس بها، وإلا انطلق رصاص الاعتراض من كل حدبٍ وصوب، وقامت الدنيا ولم تقعد. ومن لم تجُز له صفةُ القدسية صار يعاقِب بالسجن، بتهم القدح والذم، من يضع ضده تعليقا، لا أكثر، على وسائل الاتصال الاجتماعي. هذا ما جرى للصحافي فداء عيتاني الذي حُكم عليه غيابيا بالحبس أربعة أشهر، وبدفع غرامةٍ بقيمة عشرة ملايين ليرة، على خلفية تعرّضه لوزير الخارجية اللبناني، وتعليقه بعبارة "بلد بيسوى جبران باسيل إنتو أكبر قدر". عقوبة فداء عيتاني، وآخرين سواه، درسٌ يُعطى لمن تسوّل له نفسه التعدّي على قامات لبنان ومقاماته، بدليل أن الرجل صار "لاجئا سياسيا في بريطانيا، بفعل الاضطهاد"، كما صرّح للزميلة "النهار".
وعلى هامش المونديال، لا بد من القول إن الحرية قد خسرت مباراتها الأخيرة في لبنان، وخرجت نهائيا من المباريات. وإني، لا، لم أشاهد مقابلة زياد الرحباني على قناة المنار، مع أني علمتُ بموعدها، ولم يكن لديّ ما يشغلني عن حضورها ...