في مقهى شعبي وسط مدينة الصدر، شرقي بغداد، يجلس حسن لازم (34 عاماً)، بانتظار عروض جديدة ترده للبحث عن جثث مخطوفين عراقيين، بعدما برزت في بغداد أخيراً مهنة أُطلقت عليها شعبياً تسمية "متعقبي جثث"، على غرار مهنة صيادي المكافآت والجوائز، إذ تكون مهمتهم البحث عن الضحية في مكبات النفايات والساحات العامة والمناطق البعيدة المهجورة وإيجادها وتسليمها لذويها مقابل مبالغ مالية تصل إلى أكثر من 30 ألف دولار أميركي.
ويقول لازم، في حديثه لـ"العربي الجديد"، بعد يوم تمكّن خلاله من الحصول على 20 ألف دولار عقب العثور على جثتين من بين جثث ضحايا اختطفوا وقتلوا قبل أسبوع، إنّ "مهنتي الجديدة جاءت بمحض الصدفة، وكنت بمفردي، أمّا اليوم هناك أكثر من 20 متعقباً عن الجثث ينافسون عملي".
ويضيف لازم: "كنت أساعد العراقيين في العثور على جثث أبنائهم بدافع الشفقة والرحمة، لكن الهدايا والإكراميات التي كنت أتلقاها من ذوي الضحايا، جعلتني أفكر في أن أحوّل هذا الأمر إلى عمل أكسب منه رزقي، وفي الوقت نفسه أساعد الناس".
ويوضح ما يقوم به قائلاً: "مهمتي تتلخّص في الحصول على صورة للضحية وتفاصيل عنه وأي علامة فارقة على جسده، ثم أذهب إلى مناطق لا يمكن لأحد الوصول إليها كونها مناطق مغلقة للميليشيات، وأبحث في مكبات النفايات والساحات عن الضحايا وأجلبهم لذويهم".
ويتابع: "أنا لا أطلب مبلغاً مالياً محدداً، لكّن غيري يفرض ذلك، وقد يصل المبلغ إلى 30 ألف دولار في بعض الأحيان، وساعدت في نقل 47 جثة منذ شهرين كانت في مناطق مختلفة مرمية وغالبيتها لشبان". ويلفت إلى أن "ذوي الضحية المختطف يقومون بلقائي في هذا المقهى الذي أتخذه مكاناً لإدارة عملي، وأنا أتعاطف معهم".
وعن هوية الضحايا، يقول لازم إن "غالبية الجثث تعود لمكوّن معيّن، يتم قتلهم بسبب مذهبي لا أكثر من قبل ميليشيات مسلحة لا تنال قبولاً لدى الشيعة، كما هو الحال مع داعش، التي لا تجد أي قبول من السنّة، فقد ابتُليَ الاثنان بالجماعات المسلحة المتطرفة".
وتنحصر عملية بحث المتعقبين عن الجثث، في العادة، في مكبات النفايات والساحات العامة والمناطق المهجورة في الأحياء والضواحي التي تسيطر عليها الميليشيات ولا تبدو أي سلطة للقانون أو النظام فيها، وهي مناطق شرق وشمال بغداد.
عن ذلك، يقول الشاب حيدر شبر، أحد العاملين في مجال البحث عن الجثث، لـ"العربي الجديد"، "من حسن حظّنا أن الميليشيات لا تخفي الجثث، فهي تلقيها في العراء مكشوفة، كما أنها تخلت عن فكرة حرقها، كما في السابق. ونستخدم في الغالب كلاباً مدربة للشمّ والبحث وعصيّاً من الألمنيوم لنبش النفايات، من دون الحاجة إلى البحث بأيدينا بين أكوامها العالية". ويضيف: "أغلب الضحايا أعدموا بطلقات في الرأس أو الصدر وأعينهم معصوبة وأيديهم موثوقة إلى الخلف".
في حي العامرية الراقي، غربي بغداد، على سبيل المثال، اختطفت إحدى الميليشيات ستة طلاب جامعيين، خمسة من السنّة وواحد من الديانة الصابئية، عُثِر على جثث أربعة منهم فيما لا تزال جثتان مفقودتان على الرغم من توظيف لذويهم ثلاثة من متعقبي الجثث بأجور يومية.
ويقول خالد عبد الله، والد أحد الشبان المفقودين، لـ"العربي الجديد"، خلال زيارته في منزله، إن نجله، هاني، "اختطف خلال عودته للمنزل بعد إغلاق متجره في منطقة الكرادة، حيث أوقفته ميليشيا على طريق مطار بغداد، وبعدما تأكدت من هويته، اقتادته لجهة مجهولة وجرى الاتصال بنا مرة واحدة من هاتفه حيث أبلغني أحد الخاطفين أن هاني سيقتل ثأراً للجنود الذين قتلوا في الانبار وأغلق الهاتف بعد سبّ طائفتي وشتمها".
ويضيف عبد الله: "وجد الآخرون جثث أبنائهم الذين اختطفوا في اليوم نفسه، لكن جثة هاني لا أثر لها. وأتمنى أن يفشل المتعقبون في العثور عليها، فأمه تعيش على وهم أن يطرق هاني الباب ليلاً أو نهاراً لاحتضانه". ويتابع: "توظيف المتعقبين جاء بعد تيقّني من أنهم قد قتلوه، لكن أمه تعيش على أمل لا ينقطع، حتى أنها وضعت فراشها على باب المنزل لتكون أول مَن يرى هاني عند عودته، كما تأمل". ويشير عبد الله إلى أنه وظّف المتعقبين الثلاثة بأجور يومية تبلغ 200 ألف دينار (نحو 190 دولاراً)، تشمل أجور النقل والاتصالات ووجبات طعامهم، وستكون للذي يعثر على هاني مكافأة "مقطوعة".
وعن سبب لجوئه إلى المتعقبين، يقول عبد الله: "لا يمكن الاعتماد على الشرطة والفرق الصحية، فهم عاجزون وغير جادين أيضاً بالبحث، ولو أرادوا التفرّغ لكل الجثث والضحايا، لاضطرّت الحكومة لاستحداث قوات خاصة لهذا الأمر".
استفحال الظاهرة
وأدى انتشار الميليشيات واتساع رقعة عملها، عقب إعلان رجل الدين الشيعي علي السيستاني فتوى الجهاد في حزيران/ يونيو الماضي، إلى ارتفاع كبير في معدلات الاختطاف والقتل على الهوية في العاصمة وعدد من مدن البلاد.
وتكشف تقارير استخباراتية عراقية، حصلت عليها "العربي الجديد"، عن ارتفاع كبير في ظاهرة الجثث مجهولة الهوية في بغداد، إذ بلغت حصيلة شهر سبتمبر الماضي، 321 جثة، معظمها يعود لمدنيين عراقيين من مكوّن مذهبي معيّن، قتلوا في مناطق نفوذ ميليشيات متنفّذة شرق وشمال غرب العاصمة.
كما أن معظم الضحايا هم من فئة الشباب، يجري اختطافهم في مناطق عدة من بغداد، وفي ظروف مختلفة، ثم يُعدَمون وتُلقى جثثهم في مكبات النفايات أو الأنهر والساحات العامة، وذلك بحسب التقرير الصادر عن وزارة الداخلية.
ويشير التقرير إلى "ضلوع ميليشيات مسلّحة معروفة في عمليات الاغتيال تلك، فضلاً عن تورط جماعات صغيرة حديثة التكوين برزت أخيراَ، منها ميليشيات للدفاع عن الأماكن المقدسة ومساندة للجيش العراقي في الحرب ضد داعش".
ويضيف تقرير الداخلية أنّ "هذه الميليشيات تتخذ من ضواحي بغداد الشرقية مقراً لها، ورفعت أخيراً رايةً تُحاكي تلك التي يرفعها تنظيم داعش وكتب عليها: "الدولة العلوية في العراق والشام باقية وتتمدّد".
وعن ذلك، يكشف ضابط رفيع في وزارة الداخلية العراقية، لـ"العربي الجديد"، أنّ "رئيس الوزراء الحالي، حيدر العبادي، طالب بإعداد التقرير، بعد إبلاغ بعثة الأمم المتحدة له بارتكاب الميليشيات جرائم قتل طائفية في بغداد، تعيق عملية المصالحة وجهود عزل "داعش" عن العراقيين السنّة، وهو ما استغربه العبادي، وأكّد عدم علمه بالموضوع".
ويوضح الضابط، الذي تحفّظ عن ذكر اسمه، أنّ "الجثث المجهولة باتت الهاجس الأكبر لدى البغداديين، كما أثارت هلعهم وشلّت الحركة في العاصمة بشكل ملحوظ، إذ بلغ معدل الجثث التي تُلقى يومياً من الميليشيات ما بين 10 إلى 12 جثة".
ويشير المصدر، الذي يحمل رتبة عقيد في وكالة شؤون الاستخبارات، إلى ضلوع "ميليشيات العصائب وبدر، التي حظيت بدعم مالي وعسكري طيلة السنوات الماضية من رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، بغالبية تلك الجرائم".
وينشر ناشطون، بين الحين والآخر، تحذيرات على موقعي "فايسبوك" و"تويتر" حول أماكن وجود الميليشيات التي تُقيم حواجز وهمية وترتدي ملابس قوات الأمن وتقوم باختطاف المواطنين.
ويعترف ضابط رفيع في وزارة الداخلية، باستفحال المشكلة وخروجها عن السيطرة. ويقول العقيد مازن الموسوي، العامل في قيادة شرطة بغداد، لـ"العربي الجديد"، إن "الجثث المجهولة خرجت عن السيطرة وفشلنا في إيقافها، وهناك جهات أقوى من الشرطة، والشرطة تتحكّم بالعملية".
ويضيف الموسوي: "بعد كل عملية تستهدف قوات الجيش والشرطة في شمال وغرب البلاد، تشنّ الميليشيات عمليات خطف ثم قتل للمواطنين من طائفة محددة، ثأراً، وتسعى من خلالها إلى الضغط على المسلحين لإيقاف عملياتهم، ومعظم أصحاب الجثث تلك مدنيون أبرياء". ويخلص إلى القول: "الظاهرة تستفحل ولا يمكن إيقافها، والشرطة تكتفي حالياً، وبخجل، بمنح المواطنين تحذيرات لتجنّب الوقوع في فخاخ الميليشيات".