أبعد ممّا حقّقته على المستوى السياسي، كان لثورة 2011 في تونس تبعات كثيرة، بعضها لم يكن ليتبلور إلا بمرور سنوات، من ذلك نشوء رؤية جديدة تجاه الواقع والتاريخ. فإذا كانت فترة ما بعد الثورة قد سمّيت بالمرحلة الانتقالية، على خلفية إعادة بناء المؤسسات السياسية للبلد، فإنه يمكن تعميم هذه التسمية على ما هو أوسع؛ إلى الذهنيات والتعامل مع الشأن العام.
لعلّ مشهد التأليف في تونس يعكس شيئاً من هذه المرحلة الانتقالية، ففي إطارها ظهرت أعمال من قبيل: "كيف صار التونسيون تونسيين؟" لـ الهادي التيمومي، و"الثورات العربية.. سيرة غير ذاتية" لفتحي المسكيني وأم الزين بنشيخة، و"المعادلة التونسية" لـ الصافي سعيد، فهل كان ممكناً صدورها لولا الانزياحات التي خلقتها الثورة؟
في إطار هذه الأعمال، يمكن أن نضيف كتاب "مجتمع المقاومة" (كلمات عابرة، 2019) للباحث التونسي ماهر حنين، وهو عمل يشبه خارطة للشأن العام في تونس اليوم، إذ يرسم المؤلف أهم ملامح الفضاء العام في تونس، فيعود إلى مفاهيم أساسية مثل المواطنة والمجتمع المدني، كما يضيء على عددٍ من الفاعلين الصاعدين إلى منطقة التأثير السياسي مثل المدوّنين وفن الهامش، مع الالتفات إلى عدد من الظواهر السياسية مثل "عودة بورقيبة" وصعود الإسلام السياسي أو ما يسميه بـ"يوتوبيا الدولة الدينية". لكن حنين لا يقف عند الحاضر، بل يقيم قراءة استشرافية بناء على تراكب هذه المعطيات، وهنا تظهر مقولته حول "مجتمع المقاومة" بوضوح أكبر.
ليس هذا المصطلح الذي عنوَن به المؤلف كتابه متداولاً في الكتابات الفكرية، فما الذي يقصده منه؟ يقول حنين في حديث إلى "العربي الجديد": "عند تناول بنية العلاقات الاجتماعية ومظاهر السلوك الاجتماعي للأفراد والفئات وتطوّرها عبر التاريخ كثيراً ما قرأنا عن ''مجتمع المشهد'' (غي ديبور) و''مجتمع الاستهلاك'' (جان بودريار) والمجتمع المفتوح" (كارل بوبر). من جهتي كانت كتابات ميشيل فوكو حول ضرورة الدفاع عن المجتمع، ودلالات الترحال والمقاومة عند جيل دولوز، والمقاومة كخيار سياسي ووجودي لدى طوني نيغري، قد أثرت مفهوم المقاومة المتعارف عليه في الأدبيات الماركسية أو القومية والوطنية ليصبح فعل المقاومة محايثاً للوجود الإنساني المتطلّع للحرية".
يضيف: "لم تكن هذه المراجعات منفصلة عن انخراطي النضالي والميداني في مسارات الثورة ومسارات نُشكّل شعاراتها ومطالبها المستمرة إلى اليوم، لأجل ذلك أردت أن أجعل من هذا المفهوم ''مجتمع المقاومة" إطاراً مرجعياً ممكناً لقراءتي السوسيولوجية والسياسية لحرب المواقع التي خاضها المجتمع التونسي على امتداد تاريخه المعاصر ضد الدولة التسلّطية وضد كل أشكال التسلّط التراثية والمجتمعية والذكورية".
من هنا، يقترح حنين أن يجري "تناول الثورة التونسية ومساراتها المركبة والمستمرة كفعل مقاومة جماعي وفردي للتحرر"، مؤكداً أنه "حين نعود إلى المجتمع التحتي أو الهامش، سنقف على تجليات فعلية وأنثروبولوجية وسلوكية لهذه الروح المقاومة ضد الخنوع والانضباط والإجماع والإهانة".
وحول تبلور مشروع هذا الكتاب، يقول: "هو مراوحة بين قراءة الثورة التونسية كحدث تاريخي تناولته الكتابات الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والعلوم السياسية، وبين انخراطي شخصياً في تتبّع منعرجات هذه الثورة. ففي الكتاب هناك عودة لمتابعات لعديد المحطّات ولعديد "المقاومات" المتفرّقة، وهو بذلك محاولة لتناول كل هذا الواقع المركب الذي نعيشه في تونس من منظور البحث عن ممكنات التغيير الاجتماعي سواء بإجلاء قوى هذا التغيير وإبرازها على السطح، أو من خلال التفكير في سبل بناء تمفصلات ضرورية بينها، أو كذلك من خلال العودة إلى نظريات التغيير الاجتماعي المعاصرة التي أفرزتها تحوّلات العلوم الإنسانية وتطورات المجتمعات المابعد صناعية في مركز النظام الرأسمالي والمابعد كولونيالية في تخومه".
لنا أن نتساءل مع هكذا مؤلفات عن المساهمة التي يتطلّع إليها كتّابها، عن ذلك يقول حنين: "لكل مساهمة فكرية أو تأليفية طموح أن تكون لبنة في مشروع التحوّل الديمقراطي. ما آمله من هذا الكتاب هو الكشف عن العمق الاجتماعي والإنساني للثورة التونسية من خلال العودة إلى التاريخ والاشتغال على دور الفاعلين وتمثلاتهم، الآن وهنا". يضيف: "أعتقد أن من الضروري استمرار الجدل العمومي الحر حول فكرة الثورة وفكرة المقاومة وفكرة التغيير الاجتماعي لأن خطر وقف هذا الجدل أو محاصرته لا يزال قائماً".
لكن إلى من يتوجّه كتاب "مجتمع المقاومة"؟ يجيب مؤلفه قائلاً: "إلى جميع القرّاء، مع أنني قصدتُ التواصل من خلاله خصوصاً مع ثلاث فئات من القرّاء: أولاً الفاعلون أنفسهم أي مع المقاومين والمقاومات بمختلف حقول حضورهم. ثانياً، هو كتاب لمناضلي الأطر الحزبية والنقابية التقليدية لمساءلة أسلوب عملهم وفعلهم، فالتغيير الفوقي والعمودي والوصائي لم يعد لا ممكناً ولا مجدياً. أما القارئ المفترض الثالث فهو المثقف والمفكر اليساري القلق في ظل أزمة اليسار التقليدي في سبيل تجديد العدة المنهجية والمفهومية والأدوات النضالية والصيغ التنظيمية من أجل يسار جديد تفتقده الساحة السياسية التونسية".
يخلص العمل إلى ما يسمّيه المؤلف بـ"ما بعد الإسلاموية" و"ما بعد البورقيبية" و"ما بعد الماركسية"، وهو هنا يشير إلى أنه لا يقصد بصيغة "المابعد" النفي والإلغاء بل المجاوزة والتجديد، ففي كل مجاوزة حفظ لشيء ما من القديم وتكيف مع التاريخ ومع الجغرافيا التي نعيش فيها، وهي اليوم محلية ومعولمة في نفس الوقت، بحسب حنين الذي يضيف: "أجد أن الإسلاموية والبورقيبية والماركسية كأطر مرجعية مغلقة للفهم وللتعبئة من أجل التغيير لم تعد وظيفية، وهذا ما تقرّه المقاومات المبثوثة في المجتمع، بل إن توهم إعادة انتاج هذه الأطر دون مراجعات جذرية هو رغبة في عودة التاريخ في شكل مهزلة".
إذا كنا مع الثورة التونسية نعود إلى نقطة مرجعية حدثت منذ سنوات، فإن بلداناً مجاورة لتونس تعيش الآن مخاضات مثل التي عاشتها في 2011. يقول حنين في هذا السياق: "لديّ قناعة تؤكدها التطوّرات الأخيرة في السودان والجزائر وهي أن ثوراتنا العربية، وفاتحتها الثورة التونسية، وبالرغم من تعثراتها ستبقى خزاناً مهماً لفهم التحولات التي يعيشها العالم في المرحلة المابعد استعمارية، وها أننا اليوم نتقاطع مع أشكال احتجاج داخل المركز الرأسمالي نفسه".
يتابع: "من هنا كانت عودتي في كتاب مجتمع المقاومة إلى مرجعيات فكرية من الأرجنتين والهند وإيران وأوروبا والمنطقة العربية لإبراز كونية المقاومة التي نخوضها جميعاً ضد العنصرية والاستعمار واستغلال ثروات الشعوب وتدمير البيئة والهجوم الكاسح على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فعولمة الهيمنة النيوليبرالية تفترض عولمة المقاومة".