نقل العمل إلى العربية المترجم السوري أحمد م. أحمد، ويمكن اختزال مقولته بأن "الجهل والخوف والتناقض" هي اليوم العناصر الأساسية في تحديد الفهم الإنساني للعالم. ومن أجل تبيان ذلك على الصعيد البحثي اشتغل على أنماط متنوّعة من الحياة تبدو ذات نزعة لاعقلانية لكن البحث الأنثروبولوجي يقدّم لها تفسيرات ويظهر درجة مصداقيتها واقعياً.
من ذلك ما قدّمه هاريس في الفصل الأول؛ "الأم البقرة"، حيث يستعيد صورة "المزارِع الهندي المتضوّر جوعاً حتى الموت والجالس بجانب بقرة سمينة"، أي دون أن يستغلّها كمنتج قابل للأكل، وهو أمر يرى أنه يسرِّب شعوراً مدغدغاً من الغموض لدى المتلقّين الغربيين الذين يرون الأمور انطلاقاً من تناقض ذلك مع حسابات الجدوى.
وفي فصل آخر، بعنوان "محبّو الخنزير وكارهوه"، يتناول هاريس مسألة تحريم الخنزير عند المسلمين واليهود وبعض المسيحيين، ويتناول - من جهة أخرى - تقديس قبائل المزارعين له في قرى نيو غينيا، وفي الجزر الميلانيزية جنوب المحيط الهادئ. وهنا يقارن بين تبريرات كره الخنزير ولحمه قائمةٍ على التعاليم الدينية وأخرى على ما كشفته البحوث العلمية من أخطار على الصحة.
يدرس هاريس أيضاً قضية الحرب، بالعودة إلى ما يسمّيه "الحروب البدائية" والتي كانت القبائل تشعلها باستمرار في كل مناطق العالم تقريباً. من خلال عينة قبائل المارينغ، يصل الأنثروبولوجي الأميركي إلى أن هذه الحروب كانت جزءاً من استراتيجيات التكيّف حيال نمو سكاني ضاغط.
نجد في الكتاب أيضاً نزعة نسوية قلما نجدها في الأنثروبولوجيا، ففي فصل بعنوان "الذكر الهمجي" يدرس هاريس مسألة قتل الإناث في عدة مجتمعات (نموذجه الرئيسي قبيلة يانومامو في منطقة الأمازون) ضمن ظاهرة يسمّيها "الشراسة الذكورية"، والتي ينتجها تواتر الحروب التي تفرز طبقة من الذكور الشوفينيين سرعان ما يسيطرون على السلطة والثروة في مجتمعاتهم، ويحوّلون الأنوثة (لقلة أهميتها في الحرب) إلى عبء ينبغي التخفف منه.
يخصّص هاريس عدداً من فصول عمله أيضاً للسحر وظواهره من القرون الوسطى في أوروبا إلى ما يعتبره شكلاً من أشكال عودته اليوم. الإنسان المعاصر بات يضع السحر ضمن قائمة مخاوفه، وفي نفس الوقت يجري استعادته أي أنه بالإضافة إلى دوره التاريخي كمحاولة لتغيير المسارات الطبيعية للأشياء بات ورقة تخويف. ربما يفسّر هذان الوجهان الأدوار التي تلعبها الكثير من الوسائل المؤثرة في فهم العالم اليوم.