صار يلزم، إذ نتحدث عن الرواية العربية، أن نبحث، بجديّة أكثر، في الشروط الموضوعية التي تؤسّس لكون هذا النوع الأدبي يشهد ما يشبه تعميقاً حثيثاً ورواجاً لموقعه في المجال الكتابيّ، يوماً بعد يوم، أقله في العقد الأخير. هذا، في ظل انكفاء ملحوظ للمساحة الشعرية التي يبدو أنها تغالب ذائقةً شعرية عامة آخذة في الضمور.
نلحظ تلك المؤشرات في نظرة سريعة على إصدارات دور النشر الرئيسية في العالم العربيّ، واتساع مساحة الجوائز الدورية السنوية (خليجية المنشأ غالباً) التي تحظى بها الأعمال الروائية، وصارت (البوكر مثالاً) إلى حد بعيد موعداً سنوياً، لا بالضرورة لتكريس أسماء أو مواهب، بل في أقل الأحوال لتكريس حيوية وزخم في مجالات النشر أو لإقامة جدل أو لبناء مساحة نقدية، في حقل الرواية، صار يفتقدها الواقع الشعريّ.
صار يلزم، إذ نتحدث عن الرواية العربية، أن نبحث، بجديّة أكثر، في الشروط الموضوعية التي تؤسّس لكون هذا النوع الأدبي يشهد ما يشبه تعميقاً حثيثاً ورواجاً لموقعه في المجال الكتابيّ، يوماً بعد يوم، أقله في العقد الأخير. هذا، في ظل انكفاء ملحوظ للمساحة الشعرية التي يبدو أنها تغالب ذائقةً شعرية عامة آخذة في الضمور.
نلحظ تلك المؤشرات في نظرة سريعة على إصدارات دور النشر الرئيسية في العالم العربيّ، واتساع مساحة الجوائز الدورية السنوية (خليجية المنشأ غالباً) التي تحظى بها الأعمال الروائية، وصارت (البوكر مثالاً) إلى حد بعيد موعداً سنوياً، لا بالضرورة لتكريس أسماء أو مواهب، بل في أقل الأحوال لتكريس حيوية وزخم في مجالات النشر أو لإقامة جدل أو لبناء مساحة نقدية، في حقل الرواية، صار يفتقدها الواقع الشعريّ.
من نافل القول، إن الحديث عن شروط موضوعية أسّست لمسار نضوجيّ في حقل الرواية أمر شائك، ولا يسعنا في هذا المجال تفنيده؛ إلا أننا نستطيع، بطبيعة الحال، أن نلحظ صلة وثيقة بين تأثيرات جذرية لمآل البنية الاجتماعية/ السياسية العربية في العقدين الأخيرين على أشكال التعبير الكتابية لصالح الأشكال النثرية الواقعية التي تناسب، في حدود بعيدة تلك الذائقة العربية المتحولة. ذائقةٌ صارت تنفر من كل أشكال التقريظ والغناء والتعالي لصالح تفتيح الوعي الفردي الاجتماعي على وقائع وتفصيلات موضوعية تعكسها بمرونة كبيرة تلك الأنماط النثرية في قوالب السرد الحكائيّ.
"ملتقى الرواية العربية"، الذي أقامته جمعية "أشكال ألوان" واختتم في بيروت أمس، هو ملتقى لازمٌ، وينبغي، بطبيعة الحال، أن يغدوَ فعالية سنوية. على أنه، في العمق -وفوق كونه حدثاً يتصل بقراءات التجارب الأدبية الروائية العربية- يندرج في كونه تعبيراً عن إشكاليات "الخطاب" الروائيّ راهناً لناحية اشتباكه بالقضايا الحقوقية الفردية والجمعية على غير مستوىً في العالم العربي إلى درجةٍ أن روائيين يتعرضون بشكل دوريّ للمقص الرقابيّ، وأنّ منهم من قد صدرت بحقه أحكامٌ قضائية بالسجن بتهمة "خدش الحياء العام" (قضية الروائي المصريّ أحمد ناجي بسبب روايته "استخدام الحياة"، 2014).
نتحدث، في حيز الملتقى، عن برنامج ثريّ من الندوات تلزِم، بطبيعة الحال، البحث فيها لجهة القدرة على تكوين إطار معقول عن واقع الرواية العربية. فبنظرة إلى الأسماء التي شاركت يمكن تكوين فكرة عن أهمية الحدث باعتبار التنوع في التجارب الروائية للأسماء المشاركة عبر أوراق بحثية أو مداخلات أو إدارة ندوات. أسماء في معظمها فازت في السنين الفائتة أو كانت مدرجة ضمن اللوائح القصيرة أو الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية البوكر (شكري المبخوت، أحمد سعداوي وغيرهما) وأسماء مكرسة في الرواية العربية الحديثة. أو أسماء شابة اتكأت في بواكيرها على تجارب المحترفات الروائية (مع نجوى بركات).. مثالاً لا حصراً.
تجارب تعكس في الأساس وضع الرواية العربية في كونها، ربما، النوع الكتابي الأكثر جاذبية للقراء، أو لقراء هذا الوقت أو لمزاج ولغة المدينة العربية بتحولاتها، نقول الأكثر جاذبية إلى أرضية الثقافة بتأسيساتها السوسيولوجية والسياسية أو بمحركاتها الفكرية العميقة (مثالاً، جلسة "الرواية والأخلاق والمدينة") يعكس هذا كله بطبيعة الحال إحصائيات معارض الكتاب في العالم العربيّ، وتحمّس معظم دور النشر الرئيسية لأي مخطوط روائي على حساب الأنواع الكتابية الأخرى (التي تطرّق إليها محور اقتصاد الرواية والنشر والقراءة وشارك فيه عدد من الناشرين).
في المجمل، يظل زخم الثيمات، موضوع النقاش، محكوماً بحاجته إلى تحديد أو منهجة الكلام في سبيل الخروج بخلاصات تفيد في المقبل من الورشات. التفرّع الفائق في المداخلات، على أهميتها وحيويتها، لا يخدم بالقدر المطلوب القصد من وراء الندوات. وقد يبدو هذا الزخم مفهوماً لو ربطناه بما نشهده من فقر أكاديميّ نقديّ في متابعة الإنتاج الأدبيّ عموماً والروائي في العقود الأخيرة، نعني مع انفلاش التجارب الروائية السردية في العالم العربيّ في سياق تنوعيّ ذاتي يشتمل، إضافة إلى الثيمات وخصوصيات كل تجربة في كل بلد، ثراءً أسلوبياً في بنى السرد وتحوّلات شكلانية وحوارية تتصل إلى حدّ كبير بتحولات بنيوية في المجتمعات.
لا يمكن، بحال من الأحوال، إغفال أن الكتابة الروائية العربية بمآلاتها الراهنة قد تكون العاكس الأكبر أو الأكثر سطوعاً لتحولات عميقة في البلدان العربية. إنها، في العمق، ابتكار، وإن كان مؤسّساً على اهتراءات خارجية موضوعية. نتحدث، هنا، عن مبانٍ تعبيرية وتركيبية لغوية صارت تميل في أعمال لافتة إلى الخروج من قوالب السرد الوصفي الواقعي المنمّط إذا صح التعبير. سرديات قد تلائم بدرجة بعيدة فوضى المدينة وتمزقاتها الداخلية باللغة والمفردات الحسية الأرضية الداهمة التي يميل معجمها إلى تجاوز أخلاقيات الأبوية السياسية الصارمة لصالح إدماج التراكيب المحكية في نسيج النصوص.
الملتقى إذ يفتح مساحة النقاش على العموم بعد كل جلسة فإنه يؤشر بطبيعة الحال إلى دينامية فارقة وتسجل لصالح جمعية "أشكال ألوان" في القدرة والإصرار على إحداث فارق في شكل التماس بين الروائي وقرائه. لا بل والبناء مستقبلاً على هذا التماس. إنه التماس الذي يعكس أيضاً التحول في شكل هذه الصلة التي بلورتها وسائل التواصل الاجتماعي على غير مستوى، ما سوف يؤثر بالحدّ الأدنى في نوع النص المنتج وحتى في طرائق معالجة الثيمات. وبنظرة وجيزة على موضوعات الأعمال، قد نكون داخلين، اليوم، عملياً في ما يشبه ورشة لترسيم واقع محدّد للرواية العربية الراهنة.
وكون الكتابة الروائية كمبنى أو تقنية سردية تدمج الأفكار والشخوص في هيكل روائي، تعتبر نوعاً محدثاً نسبياً في الإبداع العربي قياساً بتاريخ نشوء الرواية الغربية منذ ثربانتس قبل عدة قرون؛ فإن الحديث عن إشكالية تاريخ الرواية العربية وأصالة التجربة، فضلاً عن إمكانية الحديث عن تاريخية الأنماط الروائية العربية وخصوصية الأمزجة السردية يبدو لازماً في أي ملتقى ذي صلة. خصوصاً ونحن ندرك، في العمق، أن الرواية الغربية كنوع غربي من حيث منشأه الأدبي لطالما ارتبطت، بحسب التحقيب، بكونها تعكس سيرورة النشأة القومية والمفاهيم الفكرية المعرفية للحضارة الغربية في مراحلها.