مع أن أكثر من ثلاثة أسابيع مرّت على العرض الأول لأوبرا "موت كلينجهوفر" في "دار أوبرا المتروبوليتان" العريقة في مدينة نيويورك، إلا أن الجدل والاحتجاجات المطالبة بوقف العرض لم تهدأ، وإن قلّ عدد المحتجين.
ورأى بعض المحتجين أن الأوبرا "تعادي السامية وتؤنسن الإرهابيين"، أي الفلسطينيين خاطفي باخرة "أكيلي لاورو" الإيطالية عام 1985، وهو الحدث الذي تنبني عليه الأوبرا. هنا، لا بد من التأكيد أن الأوبرا ليست عملاً فنياً تاريخياً، وإنما تعتمد على واقعة تاريخية تستخدمها في جدل حول العنف، دون تقييمه بالمعنى المطلق، وحول الخيارات التي يتخذها البشر والظروف المحيطة بتلك الخيارات.
وكان متظاهرون قد اعتصموا أخيراً أمام مبنى "المتروبوليتان"، حاملين لافتات تندّد بالعمل وتصف المسؤولين على الأوبرا بأن "أيديهم ملطخة بالدماء".
ولعل الضجة التي أثيرت حول العمل، والاحتجاجات التي خرجت ضده، قد زادت من فضول الجمهور الذي بات يملأ المقاعد مع كل عرض.
ومع أن دار الأوبرا قد أصرّت على إقامة العروض في مواعيدها المقررة، وعدم الرضوخ لطلبات إيقاف الأوبرا، إلا أن موقفها لم يخل من مساومات بعدما تصاعدت الأصوات المنتقدة من أفراد ومن منظمات داعمة لإسرائيل، مثل "المنظمة الصهيونية الأمريكية" التي أعلنت بأن "الأوبرا معادية للسامية وتزور التاريخ بهدف تشويه صورة إسرائيل والشعب اليهودي وإثارة الكره ضدهما"، وطالبت بإيقاف عروضها.
ولا شك في أن الخوف من احتمال قيام المتبرّعين الأثرياء بسحب أو إيقاف تبرعاتهم السخيّة لمؤسسة "المتروبوليتان" كان سبباً آخر في سلسلة من المساومات، ومن أهمها إلغاء البث التلفزيوني والسينمائي للعمل الفني، وهو ما تقوم به دار الأوبرا عادة للعروض الافتتاحية كي يصل إلى جميع أنحاء الولايات المتحدة. كما ألغت إدارة دار الأوبرا إحدى حفلات العرض عبر الإذاعة، إضافة إلى حذف أحد المشاهد التي تبين غنى اليهود في نيويورك وتقارنه بالفقر والعوز الذي يعاني منه الفلسطينيون.
تتمحور الأوبرا حول قيام أربعة فدائيين فلسطينيين بخطف الباخرة الإيطالية "أكيلي لاورو" في السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر في عام 1985. وكان مطلبهم الوحيد الإفراج عن خمسين أسير فلسطيني في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
حاولت الباخرة التوجه إلى الشواطئ السورية، التي لم تعطها الإذن بالرسو، فهدّد الفلسطينيون بقتل الركاب إن لم تخضع إسرائيل لمطالبهم. وبالفعل، قُتل أحدهم، وكان الأميركي اليهودي المقعد ليون كلينغهوفر الذي تحمل الأوبرا اسمه. ورميت جثته في البحر مع كرسيه، لتظهر بعد أيام على الشواطئ السورية.
انتهت العملية بعد يومين تقريباً بتسوية توصلت إليها السلطات الإيطالية بمساعدة منظمة التحرير والسلطات المصرية. وقضت التسوية الإفراج عن الفدائيين مقابل أن يفرجوا هم عن السفينة وركابها. ولم يذكر القبطان للسلطات الإيطالية مقتل أحد الركاب، إلا بعد خروج الفدائيين من السفينة. ويبدو أن قراره هذا جاء خوفاً من أن يؤدي الخبر إلى قيام القوات الأميركية أو غيرها من قوات عسكرية باقتحام الباخرة واحتمال سقوط عدد كبير من الضحايا.
لا تتعامل الأوبرا مع تفاصيل الأحداث اللاحقة، وخطف الولايات المتحدة للطائرة المصرية التي كانت تقل الفدائيين الأربعة ومخطِّط العملية أبو العباس، وموته بسكتة قلبية في بغداد في سجن أميركي بعد اجتياح القوات الأميركية للعراق والقبض عليه، ولا بتسبّب العملية بأزمة دبلوماسية بين الولايات المتحدة وإيطاليا، لرفض الأخيرة تسليم المختطفين للولايات المتحدة وإصرارها على محاكمتهم وسجنهم على أراضيها.
وسبق أن عرضت الأوبرا للمرة الأولى في بلجيكا عام 1991، وانتقلت بعدها لدور عرض أوربية وأميركية ومن ضمنها نيويورك (في بروكلين) وكاليفورنيا. وقد صاحبها كثير من اللغط الإعلامي. لكن الاتهامات والحملة التحريضية على عرضها لم تصل في قوتها ومستواها إلى الحد الذي وصلت إليه مع عرضها الأخير. ولعل أسباب ذلك كثيرة، منها أهمية "دار المتروبوليتان" ومركزيتها في الثقافة الأميركية.
وضع موسيقى العمل الأميركي جون آدمز، المعروف بتناوله مواضيع شائكة، من بينها على سبيل المثال عمله "نيكسون في الصين"، وكتبت نصه الشاعرة الأميركية أليس غودمان.
تتوزع الأوبرا في فصلين يتكون كل واحد منهما من مشهدين، ويستهل كل مشهد بنشيد للجوقة ورقص يشكل نسيجاً يربط المشاهد ويقدم خلفية للحدث.
تبدأ الأوبرا بغناء للجوقة بعنوان "الفلسطينيون المنفيون" على خلفية تُظهر تضاريس جبلية صحراوية، أقرب إلى الخيال الصهيوني/ الاستشراقي عن فلسطين التاريخية منه إلى واقعها الجغرافي. تنشد الجوقة وتتبدل خلفها التواريخ (1948، 1956، 1967.. إلخ) لتشير إلى محطات مفصلية في تاريخ الفلسطينيين منذ النكبة إلى اليوم، ولكن من دون الإشارة إلى تفاصيلها أو تسميتها. وتبقى الأرقام في الخلفية عندما تركز الجوقة في رقصها وغنائها على الشتات الفلسطيني، ومعنى فقدان الوطن والنفي وتبعاته.
ثم ينتقل المشهد إلى الجوقة الثانية بعنوان "اليهود المنفيون". هنا أيضاً تظهر التواريخ المفصلية نفسها في الخلفية، ويظهر اليهود كمهاجرين إلى فلسطين، خسروا كل شيء بعد المحرقة التي لا تُذكر بشكل صريح، لكن يفهم ضمناً أنها الحدث المؤسس. ويظهر المهاجرون، كما عوّدتنا السرديّة الصهيونية، بأنهم يعمّرون المكان ويزرعونه. وهكذا، يأتي المستعمر بالحضارة إلى أرض بكر...
تتبنّى الأوبرا الرواية الإشكالية التي تساوي بين المستعمِر وبين المستعمَر. والمفارقة هي أن المساواة بين رواية الفلسطينيين ورواية الإسرائيليين، أو وضعهما في سياق تاريخي واحد، هو ما تعترض عليه المنظمات الصهيونية ومنتقدو الأوبرا.
تتجاوز هذه المغالطات العرض نفسه إلى ما يحيطه. فقد كتبت ابنتا كلينغهوفر رسالة إلى الزائرين طبعت ضمن كراسة العرض، والتي عادة ما تحتوي على تفاصيل حول العمل وخلفيات العاملين فيه. والمؤسف في الرسالة هو ما تكرر أيضاً في المظاهرات المعادية للعرض، أي الخلط بين العمليات الفدائية وفلسطين، وبين أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001، بل وزجّ "داعش" في القضية، وتشبيه "حماس" بها.
وتركّز الأوبرا بتسلسل زمني، باستثناء الجوقات، على أحداث اليومين في عملية الاختطاف. لكنها تغيّر أسماء جميع الفدائيين وتبقي على اسمي كلينغهوفر وزوجته، التي تختتم الأوبرا بغناء منفرد تتحدث فيه عن معاناتها وحزنها بعد معرفتها بمقتل زوجها، الذي فصله الفدائيون عنها على متن السفينة.
وتعطي الأوبرا فرصة لبعض الفدائيين الفلسطينيين كي يغنّوا بشكل منفرد. لكنها تفشل عبر النص في الدخول إلى عمق الشخصيات الفلسطينية.
أما موسيقياً، فقد نجحت الأوبرا في شدّ المشاهد بموسيقى مميزة لا تخلو من الدرامية والتعقيد في تركيبها دون أن تخسر عاطفيتها وتأثيرها على المتلقي.
يُعاد مشهد قتل كلينغهوفر مرتين. في المرة الأولى نرى الصراع الداخلي مترجماً في الموسيقى أكثر منه بالنص. وتظهر امرأة فلسطينية في حوار مع الفدائي، هي والدته غالباً، قبل أن يقتل كلينغهوفر، تذكّره بالشتات والمأساة الفلسطينية والقتل الذي حلّ بشعبه.
تخفق الأوبرا، مع أنها تدعي بأنها ليست تاريخية، في بعض التفاصيل المحورية، فتصور الصراع مع إسرائيل على أنه نزاع ديني، ويظهر الفدائيون، الذين كانوا ينتمون إلى حركة يسارية ماركسية، كأتباع لـ"حركة حماس". لا وجود لأعلام فلسطينية، بل أعلام خضراء. وأزياء الجوقة التي تمثل الفلسطينيين أشبه بأزياء الأفلام التاريخية أو "داعش".
وما يزيد الطين بلّة، هو قيام الفلسطينيين في الأوبرا برفع سباباتهم كما يفعل مقاتلو "داعش". أما الكتابات التي تظهر بالعربية على الجدار، وهي عبارة عن ترجمات لبعض الجمل المفصلية في الأوبرا، فجاءت بعربية ركيكة وأخطاء إملائية، في حين أن الجمل نفسها بالعبرية سليمة لغوياً وإملائياً.
تظهر ثيمة جدار الفصل العنصري في عدد لا بأس به من المشاهد، فهي في الخلفية وتتغير، وتضيق أو تتسع بحسب قوة المشهد الدرامي.
يفترض العمل أنه يطرح أسئلة جوهرية، من أبسطها وأهمها: "لماذا يقوم الفلسطينيون بما يقومون به؟" لكن حتى محاولة الأنسنة المحدودة تبقى حالياً شبه مستحيلة. وتعكس ردود الأفعال والحملة القاسية ضد الأوبرا المأزق الإنساني الدرامي أكثر مما يعكسه العمل الفني نفسه.
ويُظهر هذا الهجوم التوتر المتزايد في الولايات المتحدة حول كل ما له علاقة بمحاولة أنسنة الفلسطيني أو محاججة الرواية الصهيونية.
بعد انتهاء العرض، صفّق الجمهور النيويوركي بحرارة، خصوصاً للفنانين الذين أدّوا أدوار الفلسطينيين والممثلة التي أدّت دور زوجة كلينغهوفر، إضافة إلى الممثل الذي أدّى دوره. أما في الخارج، فكان المحتجون يوزعون المناشير بعد الساعة الحادية عشرة في ليل نيويورك البارد، ويهتفون ضدّ أوبرا تجرّأت على طرح سؤال بسيط، ولو بصورة غير مباشرة: "لماذا يقوم الفلسطينيون بما يقومون به؟".