(1)
لستُ رجلًا طاعنًا في السن والتجربة، وفترة ما بعد الأربعين ذهبية لأي رجل، يخيطُ أيامه المهترئة بمسلةِ الأحلام، ويطارد غزالات المعنى المتعثرات وهن يَعبرنَ حدود المتاهة بتلك الخفة المعهودة وذلكَ الصفاء الذي يُحدِثُ خلخلة للكون وجواره، رباااه، ماهذا الرنين الذي أسمع! هل رنَّ خلخالها هنا وأحدثَ صوتًا تحدثهُ قطعة المعدنِ على أرضٍ مصقولة أو هو تصادمُ غيمتين لينتين وماهذهِ البروق إلاَّ وئامهما أو ربما التحامهما، إذ يمكنُ لعاشقين أحدهما النار وآخر الماء أن يتواطأا طويلًا وإلى الأبد، فكيف إذًا لا يمكن لغيمتين حنونتين أن تلتئما وتتركا الخصام للسماء، فذاكَ جزءٌ من مشاغلها الكونية مع الأرض وشاغليها!
(2)
أحفرُ عن سببٍ لهذا الشعور الضمني باللاجدوى، لا أمتلك أسلحة كافية لأسميه الكآبة، أنظرُ في الغيميتين بعينين حسيرتين لعلني أظفرُ بتلك اللحظةِ الفريدة/ الشرارة، الضوء الذي يلمع سريعًا ويختفي، لكن يمكثُ طويلًا في نفسي، وإذا كان من بهجة أعيشها بين لحظة وأخرى فتلك إحدىَ فضائل الشرارة، القبس الماكث تحتَ ما أحسُّ وما أعيشُ وأنا أعبرُ البرزخ لا لأمشي إلى الأمام إنما لأرجعَ حيث كنت، ثمة قوة لا أتبينها تشدني للخلف، الخلف الذي أمتثل له بوصفهِ (أنا) الكائن المفيد والطموح لأن يكون نقيًا، لعلَّ الشرارة نتاج التصادم أداة المطهّر -هي المطهّر- فقد لحق بي كثير من الدنسِ لحظةَ عبوري ما كنت أحسَبُه نفقًا، كانَ مستنقعًا تفسّخت فيهِ الجثث والأحلام والأوهام وقطاع الطرق والمشردون وعابرو السبيل والساسة والأئمة وأنصاف المتعلمين والمثقفون حتىّ فاحت رائحةُ الآثام وعلا صوتها.
(3)
في اليوم الأول أحتطِب الأملَ.. نعم أنا حطّابُ المعنى أيضًا وأملكُ فأسًا وعلى مدِّ النظر ألمحُ الغابة معتمةً أكادُ أميزُ بعضَ الذئاب وبعض الأشرار الذين تداوروا علىَ جثتي عندما أضيئتْ. كذلكَ أجدُ بعض الحشائش والرطوبة والعفَن، وأجدُ مما أجدُ يدَ القاتل وبعضَ أدواتِ القتل. وكي لا أخلطَ بين الغابة ومسرح الجريمة سأغادرُ منصة المرئي وسأقفُ في حالةِ انتظار تحت السماء التي تصادمت فيها غيمتان وتولدّت شرارة.
في اليوم الثاني الأحد، لا وقتَ للنزهات، لا وقت للوقت، الوقت لهذا التفكُر العميق: كيف جاءتني فكرة الغرق، ولم يكن ثمةَ بحر بقدر ماكانَتِ الحديقة، التي كانت حديقة، أميزُ بالعينِ الواثقة سرابًا لعينًا يتقافزُ أمامي كثعالب جائعة، رباااه من الذي ربط بي صحرائي الممتدة من حدودِ العراق إلى جبال طوروس إلى حمادِ التنفِ وأعشاب تدمر القصيرات كإناثٍ مربوعات، يبحثنَ عن الكمأ ويزرعنَّ فسائلَ عشقٍ محرمٍ في أرضِ البوادي، إذا آنت الساعة ودقت أجراسُ العودةِ سنسلك الطريقَ هذا، تدلنا المربوعات وآثار الكمأ النيء على شفاههن المتشققةِ من الشمسِ وانحدارِ الماء إلى مجاري الأنهار القديمة والسواحل.
في اليوم الثالث والرابع والخامس لاشيءَ، سوىَ التذكرِ، مطالعةِ الوجوه المشلوحة هناك كصور وحبال غسيل وفوهات تنانير ومحاريثَ الرماد، تذكُر الطرقِ الترابية، أعشاش الدوري في المنازل، شتائم النسوة المتشاجراتِ بالقرب من شاي العصاري و اقتراب إياب الحطّابات بظهورهن المحنياتِ تحت الأحمالِ والأمال.
في اليوم السادسِ قبلَ السابعِ بقليل تَتحدّرُ أغانٍ لا متدينة ولا كافرة منَ الحَزمِ إلىَ الشِعبِ، أغانٍ للبدوياتِ، نايل وسويحلي وعتابا ودارمي ونبطي بقافية وروي، لا أحدَ يلتقط الوجوه، ولا أحدَ يظفر إلا بالعطر الراعفِ مع الريح يشوبها الغبار والصوت المتلجلج كهزات أرضٍ خفيفة. هذا في اليوم السادس، الجدبُ يسوطُ القرى والهلاك يحمل فانوسَ العتمة ويدور على الدور بيتًا بيتًا، ومن كلِّ زاويةٍ ستخرجُ جنازة وحدهنَّ البكاءات تلك اللواتي جوّدنَ الأغاني سيحظينَ بالمكانةِ الرفيعةِ، هكذا إذاً الموتىَ جمع والبكاء مفرد، لا بدَّ من فردٍ يبقى ليشهدَ.
(4)
تحدّر ظهري بانحناءةٍ خفيفة، تصبّغت لحيتي ببياض فضي وسالفي، لا يبدو من بعيد أنَّ الهيئة لرجلٍ تجاوز الأربعين واكتمَلتْ رؤيته ليكتبَ رواية عن خمسِ سنين رأتْ طفلتهُ فيهما طائرة مزمجرة وصارت تقلدُ كما لو أنّها جروٌ واستأسدَ. لا تلزم الفطنةُ هنا ولا الحكمة ليستشفَ الناظرُ من المرئي من جسد الراوي كلَّ طعناتهِ ليحكمَ إذا كانَ الرجل يزهو في الأربعين أم يصبحُ -والحال هذه- بقايا رجلٍ في السبعين.
في اليومِ السابعِ رأيت أطراف آدمي مرمية بعبث، فصرتُ بلا أطراف، جذع ورأس يحبوانِ إلى الهاوية، ورأيت قحف صديقي مهشّمًا فعشتُ أعمىَ وأعتاشُ على التذكر، ورأيتُ جثةً ورأسها بين رجليها، تلمستُ رأسي فلم أجدهُ فمشيت كنصف برميل مملوء بسائل لزجٍ وأسود، ورأيتُ أخيرًا الحطّابات والندّابات والبكّاءات وذوات الأغاني وبائعاتُ الكمأ والسراب في الفلاة ولم أجدَ اللمعانَ الذي كنت أجده إذا ما أظلمَت أو أجدَبت، ولم أجدَ الطريق ذلك الذي سلكته الأيائل الجبلية من طوروس ولا الذي سلكته ذئاب سنجار الشتوية، ولم أعثر على موطئ خفٍّ لجملٍ مسنٍ حائلٍ أو ناقة طرية. خريطة آلامي تتوزعُ عليها دول وممالك وأقاليم وأوابد، لكني لم أسمعَ حداء الراحلين إلى منتهاهم في تلك البلاد القريبةِ وصارت بعيدة، أسألُ نجمة إذا ما كانتْ تشعُّ على هناكَ أنْ تخبرني عن جثتي هل داورتها الكلاب أمْ لي بين الجمع نَدّابةٌ تجيدُ الأغنية والتعويذة، وإذا صاحت بالسماءِ تحدثُ ريحًا صرصراً وانقلابًا للفصول فتصطدم غيمة بغيمة وتحدثُ الشرارات.
(سورية)
لستُ رجلًا طاعنًا في السن والتجربة، وفترة ما بعد الأربعين ذهبية لأي رجل، يخيطُ أيامه المهترئة بمسلةِ الأحلام، ويطارد غزالات المعنى المتعثرات وهن يَعبرنَ حدود المتاهة بتلك الخفة المعهودة وذلكَ الصفاء الذي يُحدِثُ خلخلة للكون وجواره، رباااه، ماهذا الرنين الذي أسمع! هل رنَّ خلخالها هنا وأحدثَ صوتًا تحدثهُ قطعة المعدنِ على أرضٍ مصقولة أو هو تصادمُ غيمتين لينتين وماهذهِ البروق إلاَّ وئامهما أو ربما التحامهما، إذ يمكنُ لعاشقين أحدهما النار وآخر الماء أن يتواطأا طويلًا وإلى الأبد، فكيف إذًا لا يمكن لغيمتين حنونتين أن تلتئما وتتركا الخصام للسماء، فذاكَ جزءٌ من مشاغلها الكونية مع الأرض وشاغليها!
(2)
أحفرُ عن سببٍ لهذا الشعور الضمني باللاجدوى، لا أمتلك أسلحة كافية لأسميه الكآبة، أنظرُ في الغيميتين بعينين حسيرتين لعلني أظفرُ بتلك اللحظةِ الفريدة/ الشرارة، الضوء الذي يلمع سريعًا ويختفي، لكن يمكثُ طويلًا في نفسي، وإذا كان من بهجة أعيشها بين لحظة وأخرى فتلك إحدىَ فضائل الشرارة، القبس الماكث تحتَ ما أحسُّ وما أعيشُ وأنا أعبرُ البرزخ لا لأمشي إلى الأمام إنما لأرجعَ حيث كنت، ثمة قوة لا أتبينها تشدني للخلف، الخلف الذي أمتثل له بوصفهِ (أنا) الكائن المفيد والطموح لأن يكون نقيًا، لعلَّ الشرارة نتاج التصادم أداة المطهّر -هي المطهّر- فقد لحق بي كثير من الدنسِ لحظةَ عبوري ما كنت أحسَبُه نفقًا، كانَ مستنقعًا تفسّخت فيهِ الجثث والأحلام والأوهام وقطاع الطرق والمشردون وعابرو السبيل والساسة والأئمة وأنصاف المتعلمين والمثقفون حتىّ فاحت رائحةُ الآثام وعلا صوتها.
(3)
في اليوم الأول أحتطِب الأملَ.. نعم أنا حطّابُ المعنى أيضًا وأملكُ فأسًا وعلى مدِّ النظر ألمحُ الغابة معتمةً أكادُ أميزُ بعضَ الذئاب وبعض الأشرار الذين تداوروا علىَ جثتي عندما أضيئتْ. كذلكَ أجدُ بعض الحشائش والرطوبة والعفَن، وأجدُ مما أجدُ يدَ القاتل وبعضَ أدواتِ القتل. وكي لا أخلطَ بين الغابة ومسرح الجريمة سأغادرُ منصة المرئي وسأقفُ في حالةِ انتظار تحت السماء التي تصادمت فيها غيمتان وتولدّت شرارة.
في اليوم الثاني الأحد، لا وقتَ للنزهات، لا وقت للوقت، الوقت لهذا التفكُر العميق: كيف جاءتني فكرة الغرق، ولم يكن ثمةَ بحر بقدر ماكانَتِ الحديقة، التي كانت حديقة، أميزُ بالعينِ الواثقة سرابًا لعينًا يتقافزُ أمامي كثعالب جائعة، رباااه من الذي ربط بي صحرائي الممتدة من حدودِ العراق إلى جبال طوروس إلى حمادِ التنفِ وأعشاب تدمر القصيرات كإناثٍ مربوعات، يبحثنَ عن الكمأ ويزرعنَّ فسائلَ عشقٍ محرمٍ في أرضِ البوادي، إذا آنت الساعة ودقت أجراسُ العودةِ سنسلك الطريقَ هذا، تدلنا المربوعات وآثار الكمأ النيء على شفاههن المتشققةِ من الشمسِ وانحدارِ الماء إلى مجاري الأنهار القديمة والسواحل.
في اليوم الثالث والرابع والخامس لاشيءَ، سوىَ التذكرِ، مطالعةِ الوجوه المشلوحة هناك كصور وحبال غسيل وفوهات تنانير ومحاريثَ الرماد، تذكُر الطرقِ الترابية، أعشاش الدوري في المنازل، شتائم النسوة المتشاجراتِ بالقرب من شاي العصاري و اقتراب إياب الحطّابات بظهورهن المحنياتِ تحت الأحمالِ والأمال.
في اليوم السادسِ قبلَ السابعِ بقليل تَتحدّرُ أغانٍ لا متدينة ولا كافرة منَ الحَزمِ إلىَ الشِعبِ، أغانٍ للبدوياتِ، نايل وسويحلي وعتابا ودارمي ونبطي بقافية وروي، لا أحدَ يلتقط الوجوه، ولا أحدَ يظفر إلا بالعطر الراعفِ مع الريح يشوبها الغبار والصوت المتلجلج كهزات أرضٍ خفيفة. هذا في اليوم السادس، الجدبُ يسوطُ القرى والهلاك يحمل فانوسَ العتمة ويدور على الدور بيتًا بيتًا، ومن كلِّ زاويةٍ ستخرجُ جنازة وحدهنَّ البكاءات تلك اللواتي جوّدنَ الأغاني سيحظينَ بالمكانةِ الرفيعةِ، هكذا إذاً الموتىَ جمع والبكاء مفرد، لا بدَّ من فردٍ يبقى ليشهدَ.
(4)
تحدّر ظهري بانحناءةٍ خفيفة، تصبّغت لحيتي ببياض فضي وسالفي، لا يبدو من بعيد أنَّ الهيئة لرجلٍ تجاوز الأربعين واكتمَلتْ رؤيته ليكتبَ رواية عن خمسِ سنين رأتْ طفلتهُ فيهما طائرة مزمجرة وصارت تقلدُ كما لو أنّها جروٌ واستأسدَ. لا تلزم الفطنةُ هنا ولا الحكمة ليستشفَ الناظرُ من المرئي من جسد الراوي كلَّ طعناتهِ ليحكمَ إذا كانَ الرجل يزهو في الأربعين أم يصبحُ -والحال هذه- بقايا رجلٍ في السبعين.
في اليومِ السابعِ رأيت أطراف آدمي مرمية بعبث، فصرتُ بلا أطراف، جذع ورأس يحبوانِ إلى الهاوية، ورأيت قحف صديقي مهشّمًا فعشتُ أعمىَ وأعتاشُ على التذكر، ورأيتُ جثةً ورأسها بين رجليها، تلمستُ رأسي فلم أجدهُ فمشيت كنصف برميل مملوء بسائل لزجٍ وأسود، ورأيتُ أخيرًا الحطّابات والندّابات والبكّاءات وذوات الأغاني وبائعاتُ الكمأ والسراب في الفلاة ولم أجدَ اللمعانَ الذي كنت أجده إذا ما أظلمَت أو أجدَبت، ولم أجدَ الطريق ذلك الذي سلكته الأيائل الجبلية من طوروس ولا الذي سلكته ذئاب سنجار الشتوية، ولم أعثر على موطئ خفٍّ لجملٍ مسنٍ حائلٍ أو ناقة طرية. خريطة آلامي تتوزعُ عليها دول وممالك وأقاليم وأوابد، لكني لم أسمعَ حداء الراحلين إلى منتهاهم في تلك البلاد القريبةِ وصارت بعيدة، أسألُ نجمة إذا ما كانتْ تشعُّ على هناكَ أنْ تخبرني عن جثتي هل داورتها الكلاب أمْ لي بين الجمع نَدّابةٌ تجيدُ الأغنية والتعويذة، وإذا صاحت بالسماءِ تحدثُ ريحًا صرصراً وانقلابًا للفصول فتصطدم غيمة بغيمة وتحدثُ الشرارات.
(سورية)