تعود اللغة العربية اليوم قضيةً أساسية في فرنسا بفعل الحجم الديمغرافي للمهاجرين العرب فيها، وأيضاً لأسباب تتعلّق بالعلاقات الثقافية والتاريخية التي انبنت بين فرنسا والعالم العربي مع العصر الكولونيالي وبعده.
هذه العلاقة مع العربية ليست طارئة، إذ تمتد إلى طبقات تاريخية عميقة كانت موضوع محاضرة ألقاها الباحث الجزائري الفرنسي آلان مسعودي الثلاثاء الماضي ضمن برنامج مؤسسة "ديوان في لورين" في قاعة "ليلوبون".
اعتمدت المحاضرة بالأساس على كتاب أصدره مسعودي سنة 2015 بعنوان "المستعربون وفرنسا الكولونيالية (1780 – 1930)"، لكنها تجاوزته إلى إضاءات أشمل.
في بداية حديثه، يفسّر مسعودي بعض خياراته المصطلحية والمنهجية، منها استعمال كلمة المستعربين بدل المستشرقين، مشيراً إلى أن أحداً لم يعد يصف نفسه بالمستشرق اليوم، وهو ما يصوغه مازحاً بالقول "مستشرق: تعريف يكاد ينقرض في البطاقات الشخصية للأكاديميين". يعود ذلك كما هو معروف إلى تبعات إصدار إدوارد سعيد لكتاب "الاستشراق" (1979) والذي فضح الجانب الإمبريالي للمعرفة الغربية في تمثلها وتعاملها مع الشرق، وأثبت أن إنتاج هذه المعرفة كان يهدف إلى السيطرة أساساً.
يقول مسعودي: "قام عمل سعيد على تحليل النصوص الأدبية وتفكيكها، واشتغل على المتخيّل، ووصل إلى نتائج مهمّة للغاية، لكن بالنسبة للمؤرّخ فإن كل هذا العمل هو للإعادة من البداية، إذ ينبغي الاعتماد على متن مغاير تماماً". كمؤرّخ، اتجه مسعودي صوب الأرشيف لإعادة بناء أطروحة الاستشراق، وضمن هذا الأرشيف ركّز على السير المهنية لمن يمكن وصفهم بالمستعربين.
يلاحظ مسعودي من جهة أخرى أن عمله لا يفارق عمل سعيد على مستوى المتن فقط، وإنما أيضاً ينبغي الأخذ في الاعتبار فروقات أخرى من اختلاف الفضاء المغاربي عن المشرقي، واختلاف الكولونيالية الفرنسية عن البريطانية، وأيضاً متغيّرات الأنظمة التي تحكم العواصم الأوروبية بين يسارية وقومية ومَلكية وجمهورية، معتبراً أن هذه الفروقات تنتج أضواء متعدّدة تلوّن ظاهرة الاستشراق وتُعدّدها، ما يفرض على الباحث وضع خيارات صارمة من البداية، وتحديدات زمنية ومكانية، وأخرى متعلقة بالنماذج.
السؤال الرئيسي للمحاضرة هو "كيف تبلورت "زمرة المستعربين" في الفضاء المعرفي الفرنسي؟"، وهو سؤال يعيد البحث إلى قرون بعيدة ويصل به إلى الحاضر، فهذه الزمرة يمتدّ حضورها في فرنسا ما قبل وما بعد العصر الكولونيالي، وهي ذات خاصية لافتة بالنسبة للمحاضر كونها تمثّل الحاضن الأساسي لوراثة التركة الاستعمارية من أرشيفها إلى متخيّلها.
هنا يعود الباحث الفرنسي إلى قصّة تطوّر هذه الزمرة، حيث إن المرحلة الأخيرة من التاريخ الكولونيالي دمجت بين المستعربين والمقتضيات الإدراية، وحين أتت موجة استقلال البلدان العربية عن فرنسا كانت معظم الوثائق التي تتصل بتلك المرحلة وتاريخ الاستعمار بصفة عامة بين أيديهم.
للوصول إلى هذه النقطة الأخيرة، يَعُدّ مسعودي محطات رئيسية تبلورت فيها "زمرة المستعربين". كانت أولاها سابقة للسياقات الاستعمارية حيث إن قدماء المستعربين أتوا من الثيولوجيا، وكانوا يدرسون العربية من أجل مقارنة النصوص الدينية، وهؤلاء قلما احتكّوا بالمنطقة أو بالتطورّات اللغوية، وهو ما سيحدث في المحطة الثانية مع ظهور مستعربين يرافقون البعثات التجارية والمستكشفين، ومع تطوّر العلاقات بين الغرب والشرق، بدأت فرنسا في تكليف عدد من الضبّاط بتعلمّ العربية كي يكونوا ممثلين لها في عدة عواصم.
المحطة الرابعة كانت مع الوصول العسكري إلى الشرق، مع حملة نابليون بونابرت في 1798 وصولاً إلى احتلال الجزائر في 1830، وهنا تحوّل المستعربون إلى رأس مال حقيقي يمكن توظيفه، كما أن هذه المحطة أساسية من ناحية كونها ساعدت أيضاً في بناء قاعدة بيانات استشراقية نُقلت إلى باريس مع تجميع الوثائق حول البلدان العربية من خلال النهب أو الشراء.
لكن مع أخذ موقع ثابت في الجزائر، ظهرت ملامح مرحلة جديدة تميّزت بعودة الرهان الفرنسي على تعليم العربية للضباط والموظفين في الإدارة الاستعمارية، والتي كان طموحها بحسب مسعودي متجهاً لوضع نموذج ثنائي اللغة أي أن يتحدّث الفرنسيون العربية وأن يتحدّث الجزائريون الفرنسية.
غير أن التحوّلات السياسية في باريس أجهضت هذا المشروع. يضع مسعودي سنة 1870 كنقطة تحوّل مع عودة الجمهورية في فرنسا، والتي يرافقها أيضاً عامل ديمغرافي تمثّل في كون السكّان من أصول أوروبية باتوا فئة وازنة في الجزائر وبالتالي تبلورت رغبة في فرض ثقافتهم على ثقافة "السكان الأصليين".
سيتواصل هذا المدّ الأوروبي لعقود، على حساب العربية وصولاً إلى سنة 1920 حيث بدأ القطع مع العربية بشكل عنيف، والسبب بحسب مسعودي هو الحرب العالمية الأولى التي أنهت القوة الإمبراطورية الفرنسية وبالتالي سقطت تلك الأريحية في التعامل مع العربية فتحوّل النظر إليها كخطر بعد أن اعتُبرت أداة حكم، وهو بحسبه مرور من العربوفيليا إلى العربوفوبيا.
هذه المحطة الأخيرة، هي في نظر مسعودي تحكُم إلى اليوم علاقة فرنسا بالعربية، وإن ظهرت أكثر فأكثر فئات جديدة داخل "زمرة المستعربين" من خارج هذا المسار التاريخي، وبالتالي فهي بصدد تغيير ضوابطها وطرق تعاملها مع الثقافة العربية.