تحت سماء العاصمة الزرقاء وقف فيرناندو بجانب والده سيرخيو على أبواب الأولمبيكو وهو يهتف كباقي المُشجعين من حوله "فورزا نابولي، فورزا نابولي"، نظر إليه سيرخيو قائلاً: أرجو أن نخرج من هُنا بالكأس حتى لا تذهب ابتسامتك تِلك.
فيرناندو: أتمنى ذلك أيضاً. أعتقد أننا أقوى من الفيولا، وأن الكأس سيعود معنا إلى نابولي. على أي حال، سنخرج من هُنا ونحن نهتف فورزا نابولي، سواء انتصرنا أم لا.
دخل سيرخيو وفيرناندو من بعده إلى الكورفا. نظر الأب إلى ساعته وقال: الوقت لا يُريد أن يمر، أمامنا أكثر من ساعة وتبدأ المُباراة.
لم يلتفت فيرناندو لما قاله والده فهو كان مُنشغلاً بمُطالعة التشكيل الذي سيبدأ به نابولي المُباراة على هاتفه المحمول. التفت أخيراً لوالده سائلاً: لماذا لا يرتدي أي لاعب في فريقنا الرقم 10، مُنذ أن بدأت مُتابعة كُرة القدم ولم أرَ الرقم 10 على ظهر أحد لاعبينا. الجماهير فقط ترتديه وفوقه اسم "مارادونا".
اعتدل سيرخيو في جلسته وكأنه علم للتو ماذا سيفعل في الساعة المُتبقية على بداية اللقاء، يبدو أنه سيقصّ على فيرناندو تاريخ أعظم لاعبي نابولي على الإطلاق.
سيرخيو: الرقم 10 مُحرّم على أي لاعب تخطو قدماه أرض السان باولو. مَن يرتدي القميص السماوي ويقطن جنوب إيطاليا غير مسموح له بارتداء الرقم 10. الرقم 10 هو لمارادونا فقط. مارادونا ولا أحد غيره. الإدارة حجبته منذ رحيل دييجو عن الفريق.
جاء مارادونا إلى الجنوب بعد موسم كُنا قد عانينا فيه الأمرّين، ولكن بحضوره احتل نابولي المركز الثامن، وفي العام التالي أنهينا البطولة في المركز الثالث وانتصرنا على اليوفي، وهو أمرٌ، إن تعلم، عظيم، بل هو بمثابة بطولة. وقبل بداية موسم 87، صَرّح الدييجو في الإعلام أن نابولي هو مَن سيحرز السكوديتو هذا العام.
أحداً لم يلتفت لتصريحات مارادونا وحصر الجميع المُنافسة بين اليوفي وإنتر ميلان وروما، أما أنا ومن على شاكِلتي، كُنا نحلم بما قاله مارادونا، نحلم بسكوديتو نرفعه أخيراً ولأول مرة في السان باولو. مارادونا كان الأمل والمُخلِّص، كان جيفارا نابولي وقائد ثورة الجنوب على الشمال الذي طالما تجاهل وجودنا على خريطة إيطاليا الكروية، الأمر كان يتعدى الفوز بالسكوديتو. الأمر كان مُعقّداً يا ولدي، أندية الشمال كانت تستقبلنا بلافتات "أهلاً بكم في إيطاليا"، لم يكن يعتبرنا أحد طليان من الأساس، حتى تلبّس هذا الشعور أجسادنا وأرواحنا، أصبحنا نشعر أن دوقية نابولي هي مدينة مُنفصلة عن إيطاليا، حين كان يُسئل أحدنا هل أنت إيطالي؟ كان يرد بكُل فخر.. لا أنا نابوليتاني.
ظل أتزوري نابولي مُضطهداً من الشمال ومن الإعلام، فكانت الثورة المارادونية هي الرد الأمثل عليهم.
كُنا نجلس في الكورفا ننتظر دخوله إلى الملعب كملِك مُتوّج، يضع قدمه اليُسرى أولاً على عُشب السان باولو ثم يرسم الصليب على صدره، وبعدها يذهب لمُدلّك الفريق ومُعالجه الفيزيائي، كارماندو، ويطبع قُبلته العظيمة على رأسه، تِلك كانت طقوس دييجو التي يبدأ بها كُل مُباراة.
مرّ الموسم سريعاً، وقبل مُبارتنا مع الفيولا في قلب السان باولو كُنا على رأس الجدول بفارق 3 نقاط عن اليوفي و4 عن الإنتر. فوزنا على فيورنتينا كان يعني الفوز باللقب، وأي نتيجة أُخرى تُزيحنا من طريق المجد الذي بدأنا السير فيه للتو. امتلأ الملعب بـ85 ألف نابوليتاني يهتفون باسم القديس دييجو ويغنون فورزا نابولي، أذكر كيف داعب دييجو الكُرة بكعبه السحري لتصل إلى كارنيفالي، الذي استحوذ عليها ببراعة ونجح في تمريرها بعيداً إلى جيوردانو الذي مررها بكعب القدم لكارنيفالي الذي أودعها الشباك. أزعم أن أرض الجنوب كُله كانت تهتز من تحتنا. الفرحة كانت تنطق هي الأخرى باسم دييجو ونابولي، ولكن الشاب روبيرتو باجيو أطلق رصاصة في قلب الجنوب، أسكن الكُرة في مرمانا. وقف كل مَن في الملعب والقلوب كذلك كادت أن تقف. عيوننا كانت في الملعب. قلوبنا تتقافز داخل صدورنا وآذاننا تلتصق بالراديو لنعرف نتيجة مُباريات اليوفنتوس وإنتر. هتف الملعب بأكمله بصيحات النصر رغم أن نابولي لم يُحرز أي أهداف أُخرى. في الواقع كانت الصيحات من أجل انتهاء مُباريات الفرق الأخرى بهزيمة إنتر وتعادل يوفنتوس، أي أن ليس علينا إلا الصمود لدقيقتين فقط أمام الفيولا لنفوز بالسكوديتو... وقد كان يا عزيزي.
قفز دييجيتو مع صفارة الحكم، أزعم ان رأسه كاد أن يلمس السماء. عِناق مارادونا للسماء وعِناق النابوليتان في المُدرجات كان عاطفياً بكُل تأكيد، ولكن الفوز بالسكوديتو في الجنوب، وخاصة في نابولي، هو أمر عظيم، يهم رفات الموتى وعظامهم قبل الأحياء حتى. أذكر أننا قد ذهبنا لمقابر موتانا لنُخبرهم بأننا فُزنا بالدوري أخيراً، نُخبرهم أن ساحراً ثائراً أرجنتينياً رفع الكأس الذهبية تحت شمس الجنوب، وأن اسم نابولي زُيّن بلقب البطل. رفعنا لافتات في المقابر كتبنا عليها "آه لو تعلمون ما فاتكم". كُنا نعلم أن فوز نابولي بالاسكوديتو سيسعدهم، حتى لو كانوا في الجحيم نفسه، سيبتسمون ويهتفون "كامبيوني، كامبيوني فورزا نابولي كامبيوني".
ما فعله مارادونا في نابولي لن يُمسح من الذاكرة ولا بعد ألف عام، قادنا للفوز بالسكوديتو مرتين وبكأس الاتحاد الأوروبي، مُعجزات مارادونا لن تتكرر وإن حدث وتكررت، فشغف الانتصار والفوز بأول دوري في تاريخك لن يضاهيه شيئاً.
رقم 10 يُطبع على قُمصان نابولي كُل عام يا فيرناندو، لكن اسماً لن يليق به إلا مارادونا، رقم 10 مُغلق بقفل ذهبي ومفتاحه لم يُنسخ، نُسخته الوحيدة كانت وما زالت وستظل ملكاً لدييجو وحده، دييجو وكفى..
*مصر