أبو الهول يتحسس أنفه
رحم الله أمير الشعراء، أحمد شوقي، حين اختار أبا الهول موضوعاً لواحدة من بديع قصائده، تستلهم من التمثال الحجري نبضاً تاريخياً وقيمياً وحضارياً، وحتى سياسياً ودينياً، في شاعرية تحلق بالقارئ الذي يحار بأي أبيات القصيدة يستشهد، وهي تطوف به في حشد من المعاني، في مراحل تاريخية متنوعة. هل يستشهد بحديث الهيبة، أم بشهادة "أبو الهول" الصامتة على العصور التي تقلبت عليه، ومن تعاقبوا على مصر وحكمها من الفراعنة البناة، مروراً بالفاتحين والغزاة والسلاطين العتاة، أم بما يصلح أن يكون مأثورا من القول؟ وشوقي يواسي أبا الهول في طول عمره:
أَبا الهـولِ، ماذا وراءَ البقاء/ إِذا مـا تطـاولَ غيرُ الضَّجَرْ؟
ومن حق "أبو الهول" أن يضجر، خصوصا مع أنباء عن تدمير تماثيل وآثار تاريخية مثله في العراق، في ذكرى هدم حركة طالبان الأفغانية تماثيل بوذا في وادي باميان قبل 14عاماً، ومن حقه أن يتحسس أنفه الذي كسر في لحظة ردة حضارية مشابهة للتي تعيشها الأمة هذه الأيام. ومن حطم تماثيل أفغانستان، وآثار الموصل، وغيرها من الكنوز التراثية، لا يمكن أن يزعم أنه أكثر فهما للإسلام من الفاتحين الأوائل الذين أبقوا عليها، لتصبح عبرة للقادمين المأمورين بنص القرآن الكريم بالسير في الأرض، والنظر في عاقبة سابقيهم من الأولين.
فقد أبو الهول أنفه قبل اختراع الصحافة وظهور الفضائيات، ووسائل الإعلام وتكنولوجيا التواصل، بقرون، وقيدت الجريمة "ضد مجهول"، وتوزعت المسؤولية بين أحد المتصوفة في العصر الفاطمي، ويدعى صائم الدهر، ونابليون بونابرت خلال حملته على مصر، حيث ثمة إجماع على دخول خيله الأزهر، واختلاف حول دكّ مدفعيته أنف أبو الهول.
لكن، من حق أبو الهول أن يتحسر على طول البقاء الذي امتد به، ليسمع نبأ القبض على سائحتين أميركيتين في إيطاليا، بتهمة نقش الحرفين الأولين من اسميهما على جدار مدرج الكولوسيوم الأثري في روما، بينما تصور أفلام إباحية في هضبة الأهرام التي يحرسها. ومن حقه أن يضجر ويتحسر، ويتمنى أن تكون عيناه وأذناه، بل وكامل رأسه، قد أصابها الدمار، لتعفيه من مسؤوليته حارساً لهضبة الأهرام على الضفة الغربية من النيل، حيث اختار له الملك خفرع تلك الوظيفة، وراعى ذلك، عندما نحته بجسم أسد ورأس إنسان، ليجمع بين قوة الأول وحكمة الثاني. ولكن، ما جدوى تلك القوة ونفع الحكمة، بعد اختيار الهضبة المحروسة مكاناً لتصوير فيلم إباحي في رائعة النهار، باعتراف وزير الآثار؟
من شاهدوا الفيلم يقولون إن مدته عشر دقائق، وتم تصوير مشاهده في منطقة سن العجوز داخل منطقة الهرم والمنطقة الأثرية بجوار أبو الهول، ويظهر المرشد السياحي والشركة السياحية وأحد أفراد الشركة المسؤولين عن حراسة المكان في الفيديو بوضوح.
ومما يعنيه تصوير مثل هذا النوع من الأفلام، أن أصحابها كانوا مطمئنين ومحميين، من الجهات الأمنية والمعنية التي اختارت لهم الزمان، وأمنت لهم المكان، فالأمر يتجاوز استراق لحظة لنقش الحرفين الأولين من الاسم بعملة معدنية على حجر أثري، كما حدث مع السائحتين الأميركيتين في روما، وتتزايد علامات الاستفهام إذا ما عرفنا بوجود وحدة هندسية في المكان مسؤولة عن مراقبة كل ما يتم، وتضبط أي مخالفة.
من حق "أبو الهول" أن يسأل، وأن نشاركه السؤال، عمّا إذا كانت هناك علاقة بين أن القائمين على الفيلم الإباحي روس وزيارة الرئيس فلاديمير بوتين، أخيراً، إلى مصر، والتي أعقبها إفراج عن أفراد شبكة روسية متخصصة في أعمال منافية للآداب؟ وهل ثمة علاقة بين الفيلم والرغبة في إنعاش قطاع السياحة، وخصوصا أن مخيلة واضعي "أوبريت مصر" الدعائي للسياحة أوغلت في الإساءة لمصر، من حيث لا تدري؟
مرة أخرى، يتحسس أبو الهول أنفه، بل كامل جسده، منتظرا الإجابة على أسئلتنا وأسئلته. ولأن الانتظار قد يطول، يجيب شوقي:
كــأَنّ الرّمــالَ عَــلَى جـانِبَيــكَ/ وبيـن يَـدَيكَ ذنـوبُ البشَرْ