أجل... الأتراك يفسدون أطفالنا

23 يونيو 2017
+ الخط -
دونما قسم وحلفان، سأروي لكم أمراً حدث معي، ودونما زيادة أو نقصان.

سكنت، بداية تهجيري من سورية ومنذ خمس سنوات، في حي الفاتح بمدينة اسطنبول التركية، ولمحاسن الصدف ربما، جاء سكني بجوار معهد موسيقي، يتبع للبلدية، يشجينا العازفون، من الصباح للمساء، بموسيقى أقرب للشرقية، تخالها مسروقة عن العربية، أو العكس.

وحرّك هذا المعهد بمحدثكم هواجس وحنيناً، يعود بعضها لهزيمتي أمام آلة العود، عندما تحديت نفسي وصممت على العزف، منذ ثلاثين سنة بالتمام والكمال، فقلت، ولأننا كشرقيين، نحمّل أولادنا بالغالب جميع الأحلام والمشروعات التي فشلنا بتحقيقها، سأزج بابني بهذا المعهد، ليكون سر أبيه وأكثر، ويعزف على العود، ويعوّض فشلي وهزيمتي.

دونما مقدمات تشويقية، دخلت وابني المعهد، وكنا وقتذاك لا نجيد من التركية سوى "ميرهبا وهوش غولدنيز"، ولحسن حظنا أن مدير المعهد يتكلم الإنكليزية، على خلاف معظم الأتراك، فتنفسنا الصعداء لإيجاد طريقة غير الإشارة للتفاهم.

قلت له أريد أن أسجل ابني بمعهدكم، وأنا سوري، فهل هذا ممكن أم أن المعهد محصور بالأتراك؟

ابتسم وقال: أهلا وسهلاً، المعهد للأطفال بصرف النظر عن انتماءاتهم.

قلت أريده أن يتعلم العزف على آلة العود، فأسف على الفور وقال: الآلات غربية فقط، ويؤسفني أنه لا يوجد مدرّس لآلة العود.

كدنا أن نغادر، قبل أن تلمع بذهني فكرة، ولماذا ألزم ابني بحلمي، لماذا لا أدعه يتعلَّم العزف على آلة غربية، كما أني أمارس قمة الاستبداد ومصادرة الرأي، فسألته: بابا أتعزف على آلة غربية، يعني كمان شيلو كونترباص بيانو؟

فقال ابني: أجل أحب الكمان.

المهم، نقلنا للمدير التركي فحوى نقاشنا بالعربي، فرحب الرجل، وطلب بطاقة شخصية "كيملك" وجواز سفر، أعطيته المطلوب وبدأ بملء استمارة القبول وتسجيل "آداد" ضمن طلاب المعهد.

سألته حينما انتهى، ما هي التكاليف الشهرية، فقال: لا يوجد أي بدل مالي، وأشار إلى أن المعهد سيقدم طعاماً.

قلت، يعني تعلّمون بالمجّان؟ هز رأسه مبتسماً، فتابعت، وماذا عن ثمن الطعام، فقال: أيضاً بالمجان، يوجد مطبخ بالمعهد ومفتوح لطلاب الموسيقى، يأكلون ثلاث وجبات يومياً دونما بدل مالي.

بدأت شياطين المقارنة تجتاحني بين هناك، سورية الأسد وهنا، وخطر لي أن من شروط إتقان الموسيقى الاستمرار والتدريب لساعات طويلة، فقلت لمدير المعهد: أريد أن يأخذ ابني كمانا للبيت، عدا كمان المعهد والتدريب، وأنا أدفع لكم ثمنه.

فقال، لتكتمل دهشتي: نحن نعطيه كمانا خاصا به، وهو حر، يأخذه أينما يريد، كما من الضروري أن يأخذه للبيت ليتابع الدروس ويتدرب على العزف.

وفعلاً، حصل كل ذلك وبدأ ابني تعلم الموسيقى مذذاك، بل وضموه لفرقة "بيتهوفن" ليكون الطفل العربي الوحيد، بل والأصغر سناً، بين الطلاب... وليلقَ من الاهتمام وتطوير موهبته، ما دفعه أخيراً ليعزف منفرداً "صولو" أمام السيدة التركية الأولى، أمينة أردوغان، خلال حفل يوم الشباب بتركيا.

قصارى القول: ساهم ذلك المعهد المجاني برسم ملامح الطفل، الفنية والاجتماعية، وسرّع من إتقانه للغة التركية، وفتح له آفاقاً وعلاقات، جعلت منه عازفاً لا يخلو أسبوع من دعوته لـ"كونسار" ضمن اسطنبول وخارجها.

فخطر لي، بنهاية القول: كيف تفسد تركيا أطفالنا، عبر الخدمات والترفيه والاعتناء بهم، للحد الذي يتخلى خلاله رئيس الدولة ورئيس الوزراء عن منصبيهما، ليوم كل عام، لطفل تركي.

ومن أين لي أن أعوّض ابني، ومن ثم ابنتي التي لحقت به للمعهد لتعزف على "الشيلو"، ووفق السيناريو المجاني نفسه، عندما نعود لسورية، لأن التفكير بهكذا مطالب، معصية، ليس لجهة التكفيريين الذين يحتلون المشهد اليوم، بل ولدولة يفتقر أهلوها اليوم للماء والكهرباء وأبسط شروط العيش البشري، بظل البطل الممانع بشار الأسد.

وقفزت إلى الذاكرة قصة تُروى عن الشاعر الفلسطيني الكبير، محمود درويش.

يحكى أن درويش دعا صديقاً له قادماً من الأرض المحتلة لباريس، إلى مطعم راق يرتاده مثقفو فرنسا وساستها.

ولما سأل درويش ضيفه عمّا يريد أن يأكل، أجابه الضيف مجدّرة (برغل بعدس).

استغرب درويش من طلب الضيف، وكال له بضع كلمات تتناسب وطلبه الذي خاله مزاحاً.

لكن الضيف أصرّ، مجدرة أو أغادر المطعم.

ولما سأله درويش عن السبب، قال الضيف: من أين سآكل مثل هذا الطعام بعد أن أغادر باريس؟

"مجدرة مقدور عليها خيّا".