أحلام عربية في مطلع 2015
سنة أخرى تخصم من أعمارنا، ومع حلول كل سنة جديدة، تنشط لغة التمنيات والتهاني، وتتسع مساحة الأمل والحلم. ينسحب العقل من موقعه، ليفسح المجال أمام المشاعر الجياشة والرقيقة واللغة الرشيقة والشفيفة. يستقيل التفكير الاستراتيجي والعقلاني مؤقتاً، ليحضر تكتيك العلاقات والمجاملات.
لنسير مع الركب، ونعلن انتسابنا إلى أجواء أمل، نستقبل بها السنة الجديدة، ونسطّر قائمة آمال وأحلام:
نأمل أن تكون سنة 2015 للمجتمعات العربية مؤشراً على تدشين مرحلة جديدة، وإعلان قطيعة على المستويات كافة، ونقطة انطلاق إلى آفاق النموذج الديمقراطي الممكن، سياسياً واقتصاديا واجتماعياً ودينياً وثقافياً وإعلامياً. وتأسيساً على ذلك، نسمح لأنفسنا أن نحلم بصيغ جديدة للأوطان والحكومات، أوطان تتسع لجميع القناعات والحساسيات والمذاهب والأديان والأقليات، أوطان تمنح أسباب الحياة ومحفّزات البناء والعطاء والبقاء، وتمد مواطنيها بمقومات الانتماء إليها، من دون عقد أو مشاعر شيزوفرينية، منتجة للسلبية والعدمية.
نحلم بدول حداثية وعقلانية، تستند إلى مؤسسات وقوانين ضامنة حقوق المواطنين، وراعية مصالحهم، دول مواطنة تنطلق في علاقتها مع مجتمعاتها من منظور جديد، يعيد الاعتبار إلى معنى كلمة التعاقد، ويبدد الصور السلبية التي انتشرت عقوداً، وأعطت للعرب، شعوباً ودولاً دلالات قدحيه.
نحلم بأن تكون 2015 سنة انبعاث القيم العقلانية والعلاقات القائمة على منطق المؤسسات، حيث السيادة للقانون، وحيث لا يجب أن تتحول هذه الاختيارات إلى نزوات موسمية أو لحظات وجدانية عابرة، غالباً ما تُبسّط وتختزل، وتتعرض للتوظيف السياسوي والديماغوجي، وخصوصاً أننا في أمسّ الحاجة إلى طفرة فعلية، تعيد للمشاعر الوطنية ومفهوم المواطنة قوتها وحماستها.
نحلم بدبلوماسية مقدامة وفعالة وبراغماتية، مناضلة، لا سيما في اللحظات التي تتعرض فيها الأوطان للطعنات والحملات التي تسعى إلى النيل منها، وفي السياقات التي تضرب فيها القضايا المصيرية في الصميم. دبلوماسية تقوم على الكفاءة والاستحقاق والقيمة المضافة.
نحلم بتفعيل سريع للعدالة الانتقالية في الدول التي تشظّت، وكادت تنهار فيها المؤسسات وتنقرض، أو تختفي فيها شروط ومقومات الدولة، لتثبت هذه الدول للعالم قدرتها على اجتراح تجربة للمصالحة والصفح الجميل، ولتنخرط في أفق جديد من الحوكمة السياسية والديمقراطية. ولتتبنى طرقاً بديلة في التدبير، واضعة نصب أعينها، أولوية، تحقيق التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي وضمان الأمن لحماية المستثمرين المحليين والأجانب.
نحلم بمؤسسات تشريعية متطورة، ومتفاعلة مع محيطها الوطني والدولي، ومنصة للتحولات
التي تحدث في الداخل والخارج، مؤسسات تنتج الأفكار والمبادرات والاقتراحات، وترسخ الثقافة السياسية المشبعة بالقيم الديمقراطية، والمؤمنة بالاختلاف. مؤسسات تشريعية تعطي للنقاش جاذبية ومعنى، لتطيح الصور النمطية التي عادة ما تلصق بها، وتعلن تمرداً على السلوكات والممارسات التي أساءت إليها.
نحلم بخدمات عمومية راقية وإنسانية، تُقدَّم للمواطنين بدون استعمال وساطات أو رشوة. ولكن، هذا حلم يصعب تحقيقه، إذا لم يقتنع الجميع بأن هذه الممارسات كارثة حقيقية على التنمية بمفهومها الواسع، وعلى البناء الديمقراطي. ما يتطلّب عدم التساهل مع هكذا أفعال ومعاقبة من يتورط فيها، ولا بد من مساءلة الذات، وتعميم النقاش في وسائل الإعلام العمومية والخاصة حول الأعطاب والأمراض التي تنخر الجسد العربي، لكي يشعر الجميع بمسؤوليته في محاربة الظواهر السلبية، والحيلولة دون أن يحقق العرب مزيداً من التقدم في هذا المجال.
نحلم بدول آمنة، وبأجهزة أمنية وعسكرية، تؤدي واجبها ورسالتها، بعيداً عن المشاعر التي رسختها السياسات الأمنية السابقة، والتي كانت تضع الشرطي، أو العسكري، في مواجهة المدني، ما ولّد كراهية بين الطرفين. نحلم باستراتيجيات استباقية، لقطع دابر جحافل الموت الممتدة من المحيط إلى الخليج، والتي باتت تنشط وتنسج الشبكات والموالين المعتنقين أفكاراً تذكّرنا بأفلام الرعب، الأكثر بشاعة وفظاعة. ولكي يحصل هذا، يجب الالتفات إلى الأوضاع المعنوية والنفسية والمادية والاجتماعية لرجال الأمن، والشروع في وضع خطط تحفيز شاملة، بما فيها التأهيل المستمر، لامتلاك الخبرات الأمنية المتطورة، وحتى يشعروا بقدسية دورهم ونبله وأهميته، عوض أن يشعروا بالإحباط وخيبة الأمل في أثناء أدائهم واجبهم، أو أن يلوذوا بالفرار، كما حصل في العراق في أثناء زحف داعش على الموصل. ينسحب الأمر على المؤسسة العسكرية التي ينبغي أن يشتغل أفرادها في شروط مريحة، تزرع فيهم شحنة معنوية إضافية، وتشعرهم بأن رسالتهم عامل أساسي في تقوية الدولة والمجتمع الديمقراطيين.
نحلم بإدارات مجتهدة ونشيطة، تؤمن بخدمة المواطن، عوض إحباطه وتيئيسه. وتسهم في تنمية الإنتاجية وإنعاشها، وهي المهددة بالانقراض في مجتمعات عربية كثيرة، خصوصاً في زمن انتشار قيم وثقافة اللامبالاة، وعدم الانتماء إلى مرجعيات سياسية أو فكرية، ترسم خارطة طريق القناعات المؤمنة بربط المسؤولية بالمحاسبة، وتحصّن الذات من الارتماء في أحضان الفردانية والعدمية والانعزالية.
نحلم بأحزاب شفافة كصناديق الاقتراع الزجاجية أو البلاستيكية أو الخشبية التي اعتمدت في أكثر من استحقاق انتخابي في أكثر من دولة عربية، أحزاب جريئة في مواقفها وخياراتها وبرامجها، وصريحة في خطاباتها، وواضحة في ممارساتها. نحلم بأحزاب منتفضة ضد العلاقات العقائدية والعشائرية والقبلية والشوفينية والعائلية والجهوية المنغلقة، ومتمردة على زوايا الزعامات التقليدية والأزلية، ومقتنعة بأن المجتمع الديمقراطي الممكن يحتاج إلى منهجية جديدة في العملين، الحزبي والسياسي، بعيداً عن التضليل والخداع، والتنويم الإيديولوجي، والتجمعات الفلكلورية التي تنظم، عادة، في المواسم الانتخابية، لدغدغة عواطف مواطنين، لا يصلحون سوى لرفع رصيد الأصوات في صناديق الاقتراع.
نحلم بانتخابات لا يتحول فيها المواطنون إلى قطيع للتصفيق والتصديق، وإلى مواد موسمية تباع بأثمان بخسة ومهينة، لإضفاء الشرعية على هذا الحزب أو ذاك.
نحلم بسياسة تُبنى على الأفكار والمشاريع المبتكرة والمنتجة، عوض رهن السياسة لعنصر المال والسلطة. سياسة قراءة الواقع بأدوات وعتاد معرفي، لتكون هذه السياسة أكثر واقعية وأكثر قرباً من المواطن. نحلم بتراجع نسبة الأمية السياسية والدينية، حتى لا يبقى هذا الشبح ملتصقاً بنا، لكن المعركة ليست سهلة، وبقاء الآفة عائق كبير أمام التنمية والديمقراطية وتحقيق الدولة المواطنة والعقلانية.
نحلم بمواطنين إيجابيين ومنتجين، يحبون أوطانهم ويدركون بأن أفضل أشكال الانتماء إلى هذه الأوطان هو التفاني في خدمتها، والدفاع عن مصالحها وثوابتها ومقومات وجودها، بصرف النظر عن سلوكات الذين يختزلون الوطن والوطنية والمواطنة، في تعزيز مصالحهم وتقويتها، وامتيازاتهم، ويفهمون أن أي خطاب لا يلائمهم خطاب متآمر، ويسعى إلى التشويش على صفاء الخيارات التي يروجونها.
نحلم بمدن نظيفة، ومنسجمة في معمارها، لها روح وقلب نابض، إنسانية تزرع في ساكنتها أسباب الحياة والعطاء والإبداع، مدن تشفي ولا تشقي، مدن مكتفية ذاتياً بالمسارح والقاعات السينمائية المريحة، والمكتبات المفيدة والفضاءات التي تمنح للناس طاقات إضافية لحب الحياة والإقبال عليها. مدن لها رئاتها الخضراء، لها شوارع ومسالك معقولة، ولها اكتفاؤها الذاتي في كل الخدمات الأساسية، خصوصاً الصحة والتعليم والنقل والثقافة والترفيه.
نحلم بصحافة لا تسكنها أساطير البطولات، ولا عقد الزعامة والتسابق على إنتاج الإثارة، صحافة تخبر وترقّي الذوق والفكر، وتخلق تيارات داخل المجتمع، وليس صحافة تتهجّم وتشتم وتدعي أنها على صواب دائم، وأن القضاء عادل إذا صرف النظر عنها، وجائر إذا هو تابعها.
نحلم بقنوات تلفزية نمنحها ثقتنا، ونقبل على مشاهدتها، قنوات تريح عقولنا، عوض أن تشعل الفتن بداخلها وتشوش عليها، قنوات تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين، وليس إلى زمن داحس والغبراء وحروب الردة وتصفيات الحسابات المذهبية والطائفية وإطلاق الكلام على عواهنه، ونشر فتاوى غاية في التعصب، من دون تقدير التداعيات الخطيرة التي يمكن أن تعصف بالتعايش والوئام والاختلاف والحوار، وهذه مبادئ وأسس تحصّن الاستقرار والأمن الروحي، وتضمن لكل عقيدة حق معتنقيها في ممارسة شعائرهم من دون إكراه أو ترهيب أو تطهير عرقي أو ثقافي أو ديني. انتشار هذه المنابر دليل قاطع على انحطاط الحوار وتفكك العقل الحكيم وانهيار القيم النبيلة وانتشار الجهل والعنف الأعمى.