أحمد طفل، كان بالإمكان ألا يعرفه أحد. هو كان يعيش طفولته بين عائلته ورفاقه في المدرسة، ولا يكترث لأيّ من هموم الدنيا. وما بينه وبين الإرهاب، هو ما بين السماء والأرض وأكثر.
بعد هجوم "شارلي إيبدو" (7 يناير/كانون الثاني 2015)، قرّرت السلطات الفرنسيّة التشدّد في مكافحة الإرهاب، وأكّدت على جنحة "تبرير الإرهاب". ولأنها كانت في عجلة من أمرها إذ إن الرأي العام لا يرحم وتريد أن تُطمئن مواطنيها الخائفين، لجأت إلى وسائل كانت في السابق - أو ما زالت - تنتقدها حين تحدث في أماكن أخرى من العالم.
هكذا، اعتقلت ديودونيه مبالا مبالا أحد أبرز فكاهيي فرنسا، بتلك التهمة الجاهزة "تبرير الإرهاب وتسويغه". والغريب أن الأمر أتى بعد مشاركته في تظاهرة تطالب بحريّة مطلقة للتعبير، بحريّة بلا قيود ولا ضوابط كما كانت تفعل "شارلي إيبدو". وأمام الشرطة، قال ديودونيه: "حرام عليّ حلال عليهم"، قبل أن يُطلق سراحه.
أحمد ليس وجهاً إعلامياً وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره، لكنه أوقف وألصقت به التهمة ذاتها: "تبرير الإرهاب".
عند استدعاء الفتى وأبيه إلى مقرّ الشرطة وإدلائهما بشهادتَيهما، شُكّك في روايتهما وحُرّفت. لكن الوقائع تأتي لتدحض ما قالته وزيرة التربية الوطنية نجاة فالو بلقاسم عن أن "الأب وحده من استُجوب بتهمة التسلل إلى داخل المؤسسة وتهديد موظفي المدرسة، وأن الشكوى سُجّلت ضد الأب وليس ضد ابنه". وقد عرض مرصد مكافحة الإسلاموفوبيا لـ "العربي الجديد" شهادتَي الأب والابن اللتَين تنقلان رواية مختلفة.
صخب إعلاميّ كبير صاحَب توقيف الطفل وتسجيل محضر له، وقّعه أمام الشرطة. أما حضور الأب فاقتصر على أسباب طبيّة فقط، إذ إن ابنه مصاب بداء السكّري والأب يحرص على علاجه بالأنسولين. وإذا كان الأب هو المستهدف، فلماذا لم يُستدعَ إلى مقرّ الشرطة لسؤاله عن تهديداته؟
ينقل أحمد في شهادته أجواء مقلقة عن دور المدرّسين ومدير المؤسسة. فيخبر أن المدرّس تحدّث أمام التلاميذ عن ضحايا الاعتداءات وسأله: "هل أنت مع شارلي؟". فأجاب: "لستُ مع شارلي" (لأنه لم يتحمل أن يرى الصحيفة تسخرُ من النبي محمد). حينها حوّله إلى المدير الذي سأله: "من أوحى لك بهذا الجواب". فأجاب الطفل: "لا أحد". فما كان من المدير إلا أن ضرب رأسه ثلاث مرات بالسبورة، قبل أن يعزله في ركن من مكتبه. كذلك رفض السماحَ له بفحص السكّري، قائلاً: "إن لم تعالج نفسك ستموت. أنت تتمنى الموت للآخرين". فعقّب: "أنا لم أتمنَّ الموت للآخرين".
وتبيّن شهادة أحمد "إرهاباً نفسياً" متكرراً مارسه المدير بحقه، إذ إنه وعندما رآه في اليوم التالي يحفر في الأرض، قال له: "قف، لا توجد رشاشات تحت الأرض. حين تكبر، ستحمل كلاشنيكوف وتطلق الرصاص على نوافذ الآخرين".
يقول محامي العائلة سيغين غويز الذي تعرّض لانتقادات عنيفة بسبب دفاعه عن الطفل وأبيه: "نشهد حقاً هزيمة وزارة التربية الوطنيّة وهزيمة المدرسة الجمهوريّة".
بالنسبة إلى المحامي، لو صدر أي شيء عن الطفل، فإن المجلس التربوي ومجلس أولياء أمور التلاميذ هما اللذان يمتلكان صلاحية معالجة ما حصل. يضيف أن حتى الشرطي الذي استجوب الطفل، لم يعثر على ما يسمح له بملاحقته. فالقانون الذي أُقرّ في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 موجّه ضد من "يقوم بالتجنيد" ومن "يدعو إلى الجهاد".
وكانت الحملة ضد أحمد قد حظيت بتغطية إعلاميّة واسعة، وصلت إلى حد استقبال قنوات تلفزيونيّة بعض أولياء التلاميذ من حزب "الجبهة الوطنيّة" ليشوّهوا سمعة عائلة أحمد. بينيديكت واحدة من هؤلاء، طالبت كما نشرت على صفحتها على موقع "فيسبوك" حيث تظهر وهي تحمل رشاشاً: "لا حجاب ولا حلال في المدرسة. وإذا تطلّب الأمر أن نحارب، فسنحارب". وكانت السلطات بحسب ما أفاد مرصد مكافحة الإسلاموفوبيا، تريد منها تلطيخ سمعة الأب من خلال توجيه تحقيق تقوم به المصالح الاجتماعيّة على خلفيّة سوء معاملته لأبنائه.
يُذكر أن مدير المؤسسة وجسمها التربوي اللذَين مارسا عنفاً جسدياً ونفسياً بحقّ الطفل، لم يخضعا للمساءلة من قبل الشرطة والقضاء الفرنسيَين.
حسني المعطي هو أحد المحامين الجريئين الذين يدافعون عن الشباب الفرنسيّين الذين اعتقلوا بعد تظاهرهم دعماً لصمود غزّة في أثناء المحرقة الإسرائيليّة الأخيرة، والذين صدرت بحقهم أحكام جائرة. يشدّد لـ "العربي الجديد" على أنه "لا يمكن الدفاع أبداً عن قرار اعتقال الطفل أحمد وتسجيل محضر قضائي ضده. كذلك فإن المدرسة ليست مخوّلة التجسس على الأطفال، في حين توجد قنوات تربوية لمعالجة هذه الأمور". يضيف أنه "من المعيب استخدام الابن للوصول إلى الأب، وتشويه سمعته وتلفيق تهم الإساءة إلى أبنائه".
بالنسبة إلى المعطي، "فرنسا تنزلق إلى تطبيق قوانين استثنائيّة، ستخلّف ضحايا أبرياء"، ويرى أن الأمر يتطلب تحركاً شاملاً وتعبئة إعلاميّة واسعة، لمعالجة هذه الحوادث المؤلمة ودعم من يتعرّض لها بشكل مباشر والجالية العربيّة المسلمة عموماً.
وحول الآثار السلبيّة لما تعرّض له الطفل وعائلته، تؤكد المتخصصة في التحليل النفسي ثريا بلخياط أن الأمر "يتطلب متابعة نفسيّة مستمرة. فقد مورست ضغوط كبيرة على الصغير، قد لا يتحملها مستقبلاً. فطريقة تعامل مدير المؤسسة والتهديدات بالموت واستخدام أسماء الأسلحة بالإضافة إلى وصمه أمام رفاقه واتهامه بأنه في المستقبل سيحمل كلاشنيكوف ويطلق الرصاص على النوافذ وكذلك خضوعه إلى الاستجواب من قبل الشرطة وتسجيل محضر، كلها عناصر ستبقى راسخة في ذاكرته".
تضيف لـ "العربي الجديد" أن "الاختبار كان بالفعل عويصاً. فاتهام طفل في الثامنة بتبرير الإرهاب وتمجيده، ليس بأمر سهل. صحيح أنه لم يكن يفهم في البداية ما الذي تعنيه كلمة إرهاب، لكنه وبعد هذا الاختبار القاسي، أصبح قادراً على رسم بعض التصورات عنها، ومن بينها أسماء السلاح والاستنطاق والوصم وغيرها".
وفي اتصال لـ "العربي الجديد" مع فاطمة مكناسي وهي عضو في جمعية "أمهات كلهنّ متساويات"، تقول: "كلنا أمهات أحمد". وهي كانت قد صعقت من فكرة استخدام الأطفال الأبرياء من أجل الإيقاع بآبائهم.
أما النائبة السابقة في مجلس الشيوخ الفرنسي حليمة بومدين، فتشير لـ "العربي الجديد" إلى أن "أن مسلمي فرنسا يدفعون، فعلاً ثمناً باهظاً لتفجيرات شارلي إيبدو".