ملامح الوجه وحركاته وتعابيره الصامتة كافية لتقديم أداء تمثيلي احترافي بالغ السطوة. انفعالاته، وبعضها مُترجَم بكلامٍ يعكس شيئًا إضافيًا من ارتكاب أو اضطراب أو قلق أو عصبيّة، تُساهم في تحويل الغرفة الصغيرة، المنغلقة على صاحب الوجه، إلى عالم مفتوح على حالاتٍ مختلفة. كأن صاحب الوجه، بهذا كلّه، يُدخل العالم إلى الغرفة، ويصنع، لوحده، فيلمًا
يروي حكاية ستكون عادية للغاية إنْ تُصَوَّر خارجًا، أي في أمكنتها الواقعية.
تمرينٌ على التمثيل يُقدِّمه الدنماركي (السويدي الأصل) يُكُب سيدِرْغرين (1973). تدريب على ابتكار شخصية بحركة أو ملمح أو قولٍ. سَرْدُ تفاصيل وأحداثٍ بنظرة عينين أو رجفة فمّ أو استدارة رأس أو انحنائه. هذه أساسية لن تكتفي بتعبيرٍ لأنها تُشارك فعليًا في بناء دراميّ لحكاية عادية تتحوّل، مع الممثل، إلى تشويقٍ يمزج توتّرًا بمطاردة، ويُعرّي ذاتًا عبر تواصل هاتفيّ، ويصنع سينما آسرة. غوستاف مولّر (1988)، الدنماركيّ المولود في السويد، يتراجع أمام هيبة ممثلٍ يختزل كلّ شيء في ذاته المتشعّبة في النفس والروح والمادة والانفعالات. المخرج ينسحب أمام الممثل كي يكون الفيلم سينمائيًا. فالدائرة صغيرة (غرفة طوارئ 112، المخصّصة للحالات الاضطرارية، والرقم معتَمَد في دول الاتحاد الأوروبي)، لن تتّسع لأكثر من رجلٍ يُلغي المسافات بين الداخل والخارج، مع إبقاء الكاميرا في داخلٍ يتابع وقائع عالم خارجيّ مليء بمصائب وتفكّك وأهوال. إلغاء المسافات جزءٌ من لعبة سينمائية موزّعة على الكتابة والإخراج والإضاءة والتصوير والتوليف، ومركّزة أساسًا على التمثيل.
أصغر هولم (سيدِرْغرين) شرطيّ يعمل في قسم الطوارئ. يتلقّى اتصالات من مجهولين يحتاجون إلى مساعدات مختلفة. يوزّع المهام على زملاء ميدانيين. يحاول ترتيب أموره، إذْ لديه ـ في اليوم التالي ـ جلسة في المحكمة بتهمة قتل غير متعمَّد لشابٍ صغير السنّ أثناء تنفيذه إحدى المهمّات. يعاني مأزقًا مع حبيبته التي تُغادر المنزل. عابسٌ وقلقٌ. لن يُنهي يومه، رغم أن دوامه منتهٍ منذ وقتٍ قليل. يريد إنقاذ امرأة تُدعى إيبِنْ (جيسيكا ديناج) تُخبره أنها مخطوفة من زوجها مايكل (يوهان أولسن)، وأن ولديها الصغيرين باقيان في المنزل وحدهما، وأنها راغبة في الذهاب إليهما. يحاول مساعدتها. يُصرّ على إنقاذها كمن يجتهد لإنقاذ نفسه. هو يملك هاتفًا فقط. ممنوع من الخروج. مهمّته بسيطة: مساعدة الجميع بتوزيع المهام على زملائه الميدانيين، وعدم التورّط انفعاليًا مع أحد. لكن المرأة مختلفة. صوتها يشي بانهيارها وخوفها وارتباكاتها. بحّة صوتها تقول إن موتًا يُطاردها. بكاؤها المتقطّع كانقطاع دائمٍ للاتصال الهاتفي بينهما يبوح بخرابٍ عظيم.
هذا كلّه يتغلغل في ذات أصغر هولم وروحه ومسام جسده. تَغلغلٌ يدفع الممثل إلى امتصاص الخارجيّ وإعادة إطلاقه في الداخل. التفاصيل معه تُصبح ملامح ورسومات كأنها تتوضّح على الشاشة الكبيرة شيئًا فشيئًا. كيفية متابعته الوقائع كفيلة بتجاوز الحدّ الفاصل بينه وبين آخرين يُتابعون سرد الحكاية. آلية تحقيقاته ـ المكتفية بأسئلة ومحاولات دؤوبة لفهم مجريات الحكاية تلك عبر اتصالات يُجريها مع الزوج والابنة الكبرى ماتيلد (كاتينكا إيفرس ـ يهنسن) وصديقه رشيد (عمر شرقاوي) تحديدًا، وهؤلاء لن يظهروا أبدًا أمام الكاميرا ـ تجعل المشهد برمّته مشحونًا بضغط مفتوح على البوليسيّ والإنسانيّ والنفسيّ والاجتماعيّ: رجال الشرطة الميدانيون ينقلون إليه "جريمة" حاصلة في المنزل، وصديقه رشيد يتسلّل إلى منزل مايكل بحثًا عن تفاصيل ومعرفة، ومايكل نفسه سيكون مفتاح اللغز، واللحظة الانقلابية تخربط كل شيء، فيتجلّى يُكُب سيدِرْغرين في أداءٍ يتفوّق على تمثيل سابقٍ على تلك اللحظة.
كشف مضمون اللحظة الانقلابية يؤثّر سلبًا على جمالية السرد ومناخاته وعوالمه وتفاصيله. يُخفِّف من بهاء التوتر اللذين (البهاء والتوتر معًا) يزدادان حضورًا. يُقلِّص من احتمالات الدهشة وقسوة المفاجأة. هذا جزءٌ من لعبة النصّ وسياقه الحكائيّ، وجزءٌ من جمال التمثيل والتفنّن به. فالذنب حاضرٌ لكن كشفه مؤجّل، والمذنبون يتلاعبون بالأدوار مع غير المذنبين، أم أنّ الجميع مذنبون في النهاية؟ كم جُرم يُرتكب في البحث عن حقيقة ما يحصل خارج الغرفة؟ كم جُرم يُرتكب داخلها أيضًا؟ والذنب: أهو قتل غير مُتعمَّد يُحيل "القاتل" إلى كيانٍ ممزّق، أو قتل منبثق من اضطراب عقلي، أو قتل نابع من صمتٍ أو احتيال؟ أهو ذنبُ فردٍ أو اجتماع؟
تساؤلات تنكشف سريعًا في اللحظة الانقلابية تلك، وتمتدّ على المتبقّي من أحداثٍ متلاحقة. تساؤلات تقول شيئًا من العلاقات القائمة بين الفرد وذاته، وبين الفرد ومحيطه، وبين داخلٍ وخارجٍ أوسع من غرفة طوارئ بداخلها وخارجها، وبمعنى أعمق من تشويق بوليسيّ عاديّ. أو ربما لن يتورّط "المذنب" (2018) ـ المعروض في برنامج "الاختيار الرسمي ـ خارج المسابقة" في الدورة الثانية (20 ـ 28 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ في طرح تساؤلات كهذه، مكتفيًا بسرد بهيّ وصادم وجميل لحكاية عادية، يرويها ممثلٌ واحد في لغة متعدّدة الأشكال والتعابير.