في الأشهر الثمانية التالية، كان جهاز الأمن الوطني يحاول الاستفاقة من الضربة الإرهابية التي كان سببها الرئيس تلقي معلومات مغلوطة وبلاغات من عناصر سرية استقت معلوماتها من مصادر تكفيرية، بأنّ مجموعة من حركة "حسم" التي كان أعضاؤها ينتمون في السابق لجماعة "الإخوان المسلمين"، استوطنت بعض خلاياها منطقة جبلية بين الكيلو 132 والكيلو 135 على طريق الواحات المؤدي من أهرامات الجيزة إلى الواحات البحرية.
واعتمد جمال الدين في تنفيذ مهمة إعادة الهيكلة على 3 ضباط أساسيين؛ أولهم هو وزير الداخلية الحالي محمود توفيق، الذي كان قد اختير مديراً للجهاز خلفاً لشعراوي، وثانيهم هو عماد صيام الذي خلف توفيق في إدارة الجهاز عقب اختيار الأخير وزيراً في يونيو/ حزيران 2018، وهو زميل دراسته ودفعته. أمّا الثالث، فظلّ مجهول الهوية تقريباً لفترة، وهو عادل السيد عبد العزيز جعفر، والذي خرج للنور نسبياً، أخيراً، عندما تمّ تعيينه مديراً جديداً لجهاز الأمن الوطني، بينما نقل صيام كمساعد لوزير الداخلية لشؤون الأمن، وهو منصب مكتبي وشرفي أكثر من كونه ذا أهمية عملية.
قضى مدير الأمن الوطني الجديد حياته العملية متنقلاً بين إدارات الجهاز المختلفة في صمت، وبعيداً عن الضوء، حتى توليه في عام 2016 رئاسة وعضوية أكثر من لجنة على مستوى رفيع للتنسيق بين الجهاز من جهة، والاستخبارات العامة والرقابة الإدارية من جهة أخرى، وهما الجهازان اللذان أصبحا الرقم الأهم في نظام حكم عبد الفتاح السيسي.
وبحسب مصادر أمنية مطلعة، "يحاول الجهاز الأقوى (الاستخبارات) فرض السيطرة الكاملة على الأمن الوطني، وتوجيه دفته بما يخدم أغراض دائرة السيسي وحدها، وبطريقة جافة وبدون خلفيات معرفية كافية، على عكس أسلوب عمل الأمن الوطني"، موضحةً أنّ مدير الجهاز الجديد كان يلعب دور المنسّق بين عمل الطرفين طوال السنوات الأربع الماضية.
وأدى هذا الدور إلى اختيار جعفر كـ"أفضل ضابط بجهاز الأمن الوطني" بعد شهرين فقط من تولي محمود توفيق إدارة الجهاز، إذ تمّ تكريمه من السيسي بـ"نوط التميز" في حفل عيد الشرطة في يناير/ كانون الثاني 2018، والذي كان مناسبة مهمة في وقته لتأكيد اعتماد السيسي على الشرطة والأمن الوطني بصفة خاصة، في ظلّ حالة من التوتر تفاقمت في العلاقة الندية أساساً بين الشرطة والجيش، خصوصاً بعد عزل السيسي لصهره محمود حجازي من رئاسة أركان الجيش بسبب سوء التنسيق مع الشرطة والتراخي في إنقاذهم في مواجهة العناصر المسلحة في حادث الواحات.
كما تمّ الاعتماد على جعفر كممثل وحيد للجهاز في المحادثات الممتدة بين النيابة العامة المصرية والمدعي العام الإيطالي في قضية مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، الأمر الذي أكسبه صلات واسعة بالأجهزة السيادية والقضائية الأخرى.
وذكرت المصادر الأمنية أنّ مدير الأمن الوطني الجديد يمكن اعتباره نموذجاً لـ"نخبة جديدة" تمّ تصعيدها بمباركة الاستخبارات والرئاسة، لتولي الملفات المهمة في الجهاز لمصلحة السيسي ووفقاً لرؤية دائرته، بعد سنوات من المعاناة مع دوائر ومجموعات لم تكن تعمل إلا لمصالحها الخاصة، أو لمصلحة مجموعة من رموز نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، شأنهم في ذلك شأن ضباط الاستخبارات المنتمين لعهد مدير الجهاز ونائب مبارك الراحل عمر سليمان.
ومن علامات بناء الجسور بين هذه النخبة الجديدة بالأمن الوطني وجهاز الاستخبارات، ومجموعة المنتفعين الذين يحاولون الاستفادة من أذرع النظام المختلفة ليشكلوا سوياً ما يمكن وصفه بـ"طائفة حاكمة"، أنّ مدير الأمن الوطني الجديد له شقيق هو أحمد جعفر، يتولّى حالياً منصب نائب رئيس حزب "مستقبل وطن" في محافظة كفر الشيخ، وهو حالياً من المرشحين بقوة لمجلس النواب أو مجلس الشيوخ المقبلين.
وأوضحت المصادر الأمنية أنّ صعود جعفر لإدارة الأمن الوطني، مع تمتعه بحظوظ وفيرة لتولي مناصب أخرى لاحقاً، ليس منفصلاً عن سياق تصعيد عدد كبير من ضباط هذا الجهاز "المتوافقين مع سياسة دائرة السيسي الاستخباراتية الرقابية" لمناصب عليا في مديريات الأمن بالمحافظات، مشيرةً إلى أنّ معظم حكمدارية المديريات الجدد ونواب مديري الأمن، سبق لهم الخدمة في الأمن الوطني وتحت رئاسة الوزير الحالي محمود توفيق.
ورأت المصادر أنّ هذا يأتي في إطار التوسيع غير المسبوق في سلطات وصلاحيات جهاز الأمن الوطني، تحت إشراف الاستخبارات أيضاً، بهدف محاولة الاستفادة من إمكانات وخبرات الجهاز في ملء الفجوات التي لم تتمكن الاستخبارات العامة والرقابة الإدارية أو الجيش من التعامل معها، بسبب عدم تداخلها مع العديد من الملفات المحلية، كالتعامل مع شباب التنظيمات الإسلامية داخل السجون، ووضع مشروع مبادرة وثيقة الاعتراف بشرعية النظام الحالي مقابل تحسين أوضاعهم في السجون، وزيادة فرص استفادتهم من قرارات العفو الرئاسي، وكذلك الفحص الأمني للمرشحين للعفو، فضلاً عن الرقابة على الضباط والأفراد وإطاحة المعارضين منهم.
وأشرف الأمن الوطني أخيراً على إخراج العديد من القضايا المصطنعة الهادفة للتنكيل بمعارضي النظام الحاكم، أشهرها وأكثرها فجاجة قضية "الأمل" القائمة على ربط غير منطقي وغير مدعوم بالأدلة بين مجموعة من النشطاء السياسيين المعارضين وغير الإسلاميين وبين جماعة "الإخوان" وقضايا تمويلها القائمة بالفعل.
كما أشرف الأمن الوطني، بحسب المصادر، على عملية الاستعلام الأمني، وجمع التحريات عن جميع المرشحين لرئاسة الهيئات القضائية، والتي ترتب عليها إصرار السيسي على تجاهل الأقدمية وتجاوز المستحقين لها في رئاسة المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض وهيئة قضايا الدولة.