أردوغان و"تركيا الجديدة".. من تشانكايا إلى أنقرة
منذ تمرده على أيديولوجيا "الرؤية الوطنية"، بزعامة نجم الدين أربكان، بتوجهاته الإسلاموية التي سعت نحو تكامل اقتصادي إسلامي بعملة موحدة، ورأت في الاتحاد الأوروبي "نادياً مسيحياً"، رأى رجب طيب أردوغان، ورفاقه من "الديمقراطيين المحافظين"، في المعايير الأوروبية السياسية والاقتصادية سبيلاً إلى وضع حد لمعضلة الانقلابات العسكرية التي عانت منها تركيا طويلاً. ومنذ تأسيس حزب "العدالة والتنمية" في العام 2001، ثم فوزه في الانتخابات التشريعية العام 2002، كان على أردوغان مواجهة نفوذ المؤسسة العسكرية العلمانية. ومن خلال قضيتي "الأرجنكون" و"المطرقة"، وتحالفه مع حركة "خدمة"، بقيادة فتح الله غولن، تمكن أردوغان من وضع حد للوصاية العسكرية وتعزيز السلطة المدنية.
اقتضت توجهات حزب العدالة والتنمية المضيّ في التكامل مع الاتحاد الأوروبي التي أسست له في العام 1963 اتفاقية أنقرة بين التجمع الاقتصادي الأوروبي وتركيا. ومنذ عقود، تشهد تركيا عملية تحول سياسية واقتصادية شاملة، تضمنت إصلاحات واسعة، هدفت إلى توفير ضوابط ومقاييس مناسبة في مجالات الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان، وُطرحت حزمة تعديلات دستورية، عززها بدايةً استفتاء 12 سبتمبر/ أيلول 2010. وبعد أن كانت تركيا دولة على حافة الانهيار الاقتصادي وتتلقى المساعدات، أصبحت في نظر كثيرين نموذجاً ديمقراطياً ملهماً لدول المنطقة. لكن، مع ذلك، بقي القضاء التركي أداة سياسية بيد الحكومات التركية المتعاقبة، ولم يشكل سلطة مستقلةً، منذ إعدام الرئيس التركي عدنان مندريس، في محاكمة صورية على أيدي انقلابيي عام 1960.
لكن، مع تنامي مشاعر استياء الأتراك، بسبب سياسات الاتحاد الأوروبي حيال عضوية تركيا، تباطأت الإصلاحات، وفق المعايير الأوروبية، وبدا أن تركيا، بزعامة أردوغان وحزبه، تنتقي الإصلاحات التي تناسبها. وقد ترافق ذلك مع تراجع ملموس في ملفات متعلقة بالحرية والحقوق الأساسية، وخصوصاً حرية الإعلام، الأمر الذي أدى، أيضاً، إلى مزيد من المعارضة داخل البرلمان الأوروبي لانضمام تركيا للاتحاد.
داهمت الشرطة التركية، أخيراً، مؤسسات إعلامية مقرّبة من عالِم الدين المعارض، فتح الله غولن، المقيم في الولايات المتحدة الأميركية، والذي يتهمه أردوغان بإقامة "كيان موازٍ" لتقويض حكمه، واعتقلت 31 شخصاً، منهم رجالات أمن وصحافيون، ورأى الاتحاد الأوروبي في الخطوة تناقضاً مع معايير الانضمام إلى الاتحاد، ووُجهت تحذيرات عالية النبرة إلى تركيا، معتبرة أن تلك الخطوات قد تعرقل استمرار المفاوضات بشأن انضمام تركيا.
لم تثن تلك التحذيرات أردوغان عن أن يكون حازماً تجاه ما اعتبره تدخلاً أوروبياً في الشأن التركي، ورأى، واثقاً، أن مستوى حرية الصحافة في تركيا لا يوجد له نظير في دول العالم الديمقراطية، وأن أي فرد في تركيا "يستطيع أن يوجه شتائم ويتحدث بالشر عن آخرين، وأن يتفوّه بافتراءات وتصريحات عنصرية وحاقدة، لا يمكن السماح بها في دول ديمقراطية". وأضاف: "أنا نفسي، تعرضت لهذه التجربة وكذلك أسرتي"، في إشارة منه إلى ملفات فساد حركتها ضده حركة "خدمة". ومع أن تصريح أردوغان هذا يبدو دفاعياً للوهلة الأولى، إلا أنه يحمل تحذيراً عالي النبرة مفاده بأنه ماضٍ في الانتقام، ومصّر على حسم المعركة لصالحه.
يريد أردوغان، بتحديه أوروبا والولايات المتحدة، مستنداً إلى رصيده الجماهيري، أن يبدو زعيم تركيا القوي. ويمضي، في الوقت نفسه، في توجيه الضربات المتلاحقة لحركة "خدمة"، ويستعد في ذلك لخوض الانتخابات البرلمانية في يوليو/ تموز المقبل، حيث يسعى إلى الحصول على ثلثي مقاعد البرلمان، الكافية لتمرير التعديلات الدستورية التي تنقل تركيا إلى النظام الرئاسي. ويبدو أن المواجهة مع خصومه تسير لصالحه، بعد أن أثبت قدرته على
احتواء خطر "الكيان الموازي".
ولا شك أن هناك عوامل عديدة لتلك الثقة التي يبديها أردوغان، في سياساته الأخيرة تجاه أوروبا. ففي الوقت الذي تخيّر فيه أوروبا أردوغان بين احترام المؤسسات الديمقراطية وتجميد النظر في عضويتها في الاتحاد الأوروبي، فإنه يدرك أن تركيا أكثر أهمية، حتى مع استمرار تجميد عضويتها، بالنظر إلى عوامل عدة. فالموقع الجيوسياسي لتركيا، لا سيما في مرحلة ما سمي بـ"الربيع العربي"، مطلوب لتأمين حاجات الغرب الملحة، اللوجستية والعسكرية والأمنية، للتعامل مع أحداث المنطقة. كما أن تركيا، التي لديها حوالي 500 ألف جندي في الخدمة الفعلية، عضو أساسي في حلف شمال الأطلسي، وشاركت في معظم العمليات العسكرية للحلف، لا سيما في العراق وليبيا وأفغانستان، وتلعب دوراً مهماً، أيضاً، في ما يعتبره الأوروبيون سياستهم الخارجية في دعم السلام والاستقرار الإقليمي والدولي. فبالإضافة إلى الأنشطة العسكرية والإنسانية، تساهم تركيا في عمليات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأوروبي في البوسنة والهرسك، وفي بعثة سيادة القانون الأوروبية في كوسوفو.
وبقدر ما تستفيد تركيا من انضمامها إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، ستجلب عضويتها على أوروبا فوائد مهمة بحكم مكانتها الجيواستراتيجية وإمكاناتها الاقتصادية. فعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية التي عانت أوروبا والعالم من آثارها منذ العام 2009، بقي الاقتصاد التركي سادس أكبر اقتصاد في أوروبا، واحتلت المركز الأول أوروبياً في النمو، محققة نسبة 8.5 % في 2011 و2.2 في 2012. صحيح أن حجم التبادل التجاري لتركيا مع أوروبا بلغ 37% من إجمالي حجم تجارتها الكلية، إلا أن الاستثمارات الأوروبية شكلت نسبة 70% من إجمالي الاستثمارات الموجودة في تركيا، وبانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فذلك يمكّنه من توسعة السوق الداخلية وتعزيز قدرته التنافسية في الاقتصاد العالمي. وحتى الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، والذي لطالما عارض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بحجة أنها ليست جزءاً من أوروبا وثقافتها، فإنه، وإدراكاً منه لأهمية تركيا في الاستراتيجية الأوروبية، تبنى مقترحاً سبق أن طرحته النمسا، وهو أن يعرض على تركيا شراكة من نوع خاص.
ولم ينطو التحذير الأوروبي الأخير على جديد، إذ إنه، ومنذ انطلاق المفاوضات مع تركيا للانضمام إلى الاتحاد في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2005، تنفيذاً لقرارات قمة هلسنكي في العام 1999 وحتى اليوم، فإنها تعاني من تعثر وتدهور تدريجيين. الرفض الألماني والنمساوي، والفرنسي قبل الانفراج الجزئي بعد وصول الاشتراكيين إلى الحكم، والمشكلة القبرصية وملف الأكراد ومجازر الأرمن، وتنامي الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة في أوروبا، هي، مع التسييس الأوروبي لعديد منها، تشكل عقبات حقيقية أكثر بكثير ممّا تشكله عقبات التاريخ والقيم والثقافة، أو الصعوبات الفنية والإجرائية المتعلقة بأبواب التفاوض المختلفة.
صحيح أن الاقتصاد التركي قوي، وتستكشف تركيا أسواقاً جديدة، ويتنامى حضورها الدولي في المنطقة والعالم بشكل لم يسبق له مثيل منذ انهيار السلطنة العثمانية، إلا أن الاتحاد الأوروبي لا يزال الشريك التجاري الأكبر، وضعف الاقتصاد الأوروبي سينعكس سلباً على الاقتصاد التركي. مع ذلك، لم يستطع الاتحاد الأوروبي انتهاج سياسة إيجابية، أكثر عقلانية، تستغل الرغبة التركية المتواصلة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لمساعدة تركيا في تعزيز مؤسساتها الديمقراطية، أو للحد من سلطوية أردوغان من الاتجاهات الأكثر اعتدالاً داخل حزب العدالة والتنمية، ولم تلجأ إلى لغة الشراكة والمصالح المتبادلة بين الطرفين، بل كان التعالي وتسييس التفاوض الملمح الأبرز في السلوك الأوروبي حيال تركيا.
ففي الملف القبرصي، مثلاً، وبعد توقيع تركيا على البروتوكول الإضافي في 29 يوليو 2005، والذي وسّع نطاق اتفاقية أنقرة لتشمل الأعضاء الجدد الذين انضموا إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004، أعلنت الحكومة التركية أن توقيعها على البروتوكول لا يعني بأي شكل اعترافاً تركيّاً بجمهورية قبرص (الجنوبية اليونانية)، لا سيما بعد فشل خطة كوفي عنان لتوحيد الجزيرة. بادر الاتحاد الأوروبي إلى اتهام تركيا بعدم الوفاء بالتزاماتها في ما يتعلق بقبول الشراكة المتساوية مع أي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي. وفي المقابل، لم يفِ الاتحاد بالتزاماته المعلنة حيال القبارصة الأتراك، إذ بقيت لائحة التجارة المباشرة لرفع العزلة الاقتصادية المفروضة عليهم من دون تفعيل، بسبب معارضة القبارصة اليونان. وفي الوقت الذي وضع الاتحاد الأوروبي حل المشكلة القبرصية شرطاً مسبقاً لعضوية تركيا، لم يضع الشروط المسبقة نفسها لالتحاق قبرص بالاتحاد الأوروبي عام 2004.
مع انعدام الثقة المتبادلة بين الطرفين، وتنامي ثقة تركيا في نفسها، يدرك أردوغان أنه، حتى في حال تغيّر سياسة دول الاتحاد الأوروبي تجاه انضمام تركيا وتذليل عقبات التفاوض، فإن انضمامها لا يزال بحاجة إلى استفتاء عام. لذا، لن تكون تركيا مضطرة، بعد اليوم، إلى قبول إملاءات اتحاد تعلم أن لا ضمانات لالتحاقها به. ومع حاجتها، على الرغم من ذلك، إلى الحفاظ على موطئ قدم في أوروبا، فربما تصبح "الشراكة الخاصة" مع الاتحاد الأوروبي هذه المرة، مطلباً تركيّاً بديلاً لمطلب عضويتها الكاملة. لكن، وفق شروط تركية.
التاريخ والثقافة الإسلامية وأسبقيتهما (راجع "في نقد جاذبية النموذج التركي"، مقالنا في "العربي الجديد"، تاريخ 10/12/2014)، بالإضافة إلى توظيف الأسطورة والرمز، باتت أدوات مهمة في معركة أردوغان السياسية، داخلياً وخارجياً. فالقصر الرئاسي الذي بناه أردوغان، أخيراً، أكبر أربع مرات من قصر لويس الرابع عشر (فرساي)، وإذا كانت مساحة البيت الأبيض، المقر التقليدي للرئاسة الأميركية في العاصمة واشنطن، هي 55 ألف قدم مربع، فإن مساحة القصر الأبيض، المقر الجديد لأردوغان، تبلغ 3.1 ملايين قدم مربع. ولم يعد قصر سلطان بروناي، بعد الآن، الأكبر في العالم.
"لا يجب التوفير حين يتعلق الأمر بهيبة الأمة"، هي العبارة التي دافع بها أردوغان عن مضيّه في تشييد ما يُعتبر اليوم أهم رموز المرحلة الجديدة ذي الـ1150 غرفة، بكلفة فاقت 600 مليون دولار، والذي يرمز إلى طموحات أردوغان الرئاسية وتوجهاته الجديدة. وهذه العبارة نفسها هي التي سترسم سياسة أردوغان في إعادة صياغة جمهورية أتاتورك العلمانية إلى نموذج ديني وقومي محافظ، والانتقال بتركيا من تشانكايا، حيث قصر أتاتورك، إلى أنقرة، حيث قصر أردوغان حاكم "تركيا الجديدة".