تتعلق العيون بذلك الباب المعدني الموصد، والذي يشبه إلى حد بعيد باب آلة الزمن، في الرواية الشهيرة للكاتب هربرت جورج ويلز، والتي تنقلك من عالم إلى عالم آخر، لا يشبه تلك الحياة التي تعيشها، فتدخل في حسابات العصور الحجرية، لأشخاص باتوا في عداد الأموات، والذين ينتظرون الإعلان النهائي لهذا الموت، إما تحت التعذيب بكل أنواعه، أو ربما جوعاً وكمداً..
تتقاطع الملامح في زحمة الأجساد المكدسة في مكان ضيّق، يكاد لا يتسع إلى أقل من ربع هذا العدد، اللحى طالت، والثياب الرثة توحي لك بحياة قديمة توقف فيها الزمن في مدى مفتوح، فتشعر أن الزمن وصل مرحلة الصفر، وما عادت العقارب تقوى على الحركة، في مسيرة ساعة الزمن، والتي تخشى أن يطول مكوث هذه الأجساد، وكأن ما مضى من وقت لا يتجاوز لمح البصر.
عندما أغلق المزلاج الحديدي للباب خلفي، شعرت أني دخلت آلة الزمن، وانطلقت إلى عصر يعيد تعامله مع الإنسان كالعبيد، كنا كثيرين جداً، المكان الذي نتكدس به صغير جداً، هو ممر لزنزانتين مفردتين، وحمام بينهما بلا نوافذ.
ننظر إلى بعضنا.. يسأل أحدنا الآخر، نستخدم لغة يعجز السجان عن فهم مفرداتها: "ما كان ذنبي لآتي هنا"؟ هو حوار العيون المنكسرة مع أشخاص تلتقيهم لأول مرة، وقد تنتهي حياتك بينهم، لعلهم آخر الأشخاص الذين ستلتقيهم، وهم أنفسهم من سيودعونك بعيون باكية وأنت تلفظ أنفاسك الأخيرة، بعد أن يفرغ جلادك من تعذيبك على آلة الموت، التي سميّت بطريقة قذرة "بساط الريح"، ذاك الذي سيوصلك بطيرانه السندبادي إلى عالم البرزخ، إن حاولت أن تقول "لا"!
ساد صمت رهيب بين المعتقلين الذين كنت أحدهم في ذلك اليوم "الأغبر"، حين انتشلتني يد الغدر، بلا مقدمات، تحت شمس أغسطس/ آب التي كادت أن تحرقني، وأنا موثق اليدين برباط بلاستيكي، خلف جدار من "كاوتشوك" عجلات السيارات، والذي اعتادوا أن يضعوا طرائدهم خلفه، ريثما يرسلونها إلى آلة الزمن التي تخرجه من هذا العالم.
ما إن وصلت سيارة شحن "الطرائد" حتى تحولت إلى رقم، مع أرقام أخرى كانت تنتظر رقماً لها، لتوضع في "صندوق الطرائد المعدني"، هي مدة لم أستطع أن أحدد كنهها، أهي دقائق؟.. ساعات؟.. أيام؟
لم أعد قادراً على الرؤية.. كلّ شيء حولي أشبه بالسراب.. ما أعيه تماماً هو أنني سأصبح من الآن فصاعداً رقماً بين آلاف الأرقام التي تدخل ذلك المكان القصيّ، من دون حلم بالخروج، ليمر الوقت بطيئاً.. ثقيلاً.. متخماً بالعدمية..
لسان حالك يقول: "هنا مرقدك الأخير.. القبر الذي تعيش فيه حياً، لتنتقل إلى القبر الآخر المخصص للموتى..
نافذة الباب الحديدي.. هي صلة الوصل بين حياتين: كنا نعيش الأولى، وبتنا نعيش الثانية.. هي النافذة التي تتحد العيون باتجاهها، لسماع اسم من سيخرج لـ"حفلة الاستقبال" ثم التحقيق، صوت إبليسي يصرخ بأعلى طاقته باسمي، لأنهض متثاقلاً، وعيوني تودّع رفاق المكان.. ربما إلى حيث لا عودة، بعد مغادرة هذاالمكان.. هي "حفلة استقبال" كما يسمونها، وكنا نسميها "الشبح".
توثق اليدين من الخلف، وتعلّقان برافعة، والتي بدورها ترتفع وترتفع، وكأن الروح ترتفع إلى خالقها، لكنك في لحظة الألم الشديد تشعر أنك مازلت قيد التعذيب، اللحظة التي تسمى- زوراً- حياة.. لا حوار بينك وبين أحد.. المتكلم الوحيد في هذه الحفلة، هو الكرباج المصنوع من جلد فاخر، بيد جلادك الذي ينتمي إلى جنسك البشري عن طريق الخطأ!
الكرباج ينهش جسدك، وأنت تصرخ بملء حنجرتك، بآهات طويلة وعميقة، إعجاباً بجلادك، وحفلته الممتعة، هو لا يريد أن يكلمك.. يريدك أن تموت، أو تصرّح بأنك عميل وخائن.. هو لا يريد أن يعرف قصتك.. لماذا قلت هذا؟ وهتفت كذا؟.. هو يريد أن يعلمك الأدب في حضرة الدكتاتور، والذي يقتل كل ما تطاوله يده.. هو لا يريد أن يتحاور معك في أي قضية.. يريد فقط إثبات الولاء المطلق للطاغية، من خلال موتك وتعذيبك، وعندما يتوقّف كرباجه عن الحوار معك.. ترى أسنانه الصفراء وهو يمج سيجارته المستوردة، ثم يحدّثك عن المؤامرة التي تحيكها ذات الدولة، والتي يتمتّع بدخانها، ويصمت هو، ويترك بقية الحوار لصديقه الكرباج الذي أصبح امتداداً ليده القذرة.
على الرغم من ضيق المكان والأجساد المتكدسة، كانت الضحكات تعلو في الفضاء الذي اختلطت فيه أمنيات الخروج بالسلامة، بآهات المعذبين تحت سياط الاستبداد، ذاك الانتظار الذي يملأ القلوب أملاً بشمس الغد التي ستشرق وتلفح الوجوه التي بدأت تتعب.. وبريق الأنظار التي تنتظر أن تفتح نافذة الباب لقراءة جدول المفرج عنهم.. عندها.. تبلغ القلوب الحناجر.. وتشتعل جذوة الأمل؛ ذلك الأمل الذي يكبو بين يدي سجّان يؤمن أن هذه الأجساد ما هي إلا حياة مذلة.. أو موت أكيد.. وفي لحظات الانسلاخ السعيد عن تلك الكتلة البشرية.. دموع من فرح لولادة جديدة.. ودموع حزن على مشاريع شهداء أشيح عنهم نظري.. لتبقى لي من ذكراهم.. صلوات على أرواحهم التي عمدت القلوب بالمحبة.
(سورية)
تتقاطع الملامح في زحمة الأجساد المكدسة في مكان ضيّق، يكاد لا يتسع إلى أقل من ربع هذا العدد، اللحى طالت، والثياب الرثة توحي لك بحياة قديمة توقف فيها الزمن في مدى مفتوح، فتشعر أن الزمن وصل مرحلة الصفر، وما عادت العقارب تقوى على الحركة، في مسيرة ساعة الزمن، والتي تخشى أن يطول مكوث هذه الأجساد، وكأن ما مضى من وقت لا يتجاوز لمح البصر.
عندما أغلق المزلاج الحديدي للباب خلفي، شعرت أني دخلت آلة الزمن، وانطلقت إلى عصر يعيد تعامله مع الإنسان كالعبيد، كنا كثيرين جداً، المكان الذي نتكدس به صغير جداً، هو ممر لزنزانتين مفردتين، وحمام بينهما بلا نوافذ.
ننظر إلى بعضنا.. يسأل أحدنا الآخر، نستخدم لغة يعجز السجان عن فهم مفرداتها: "ما كان ذنبي لآتي هنا"؟ هو حوار العيون المنكسرة مع أشخاص تلتقيهم لأول مرة، وقد تنتهي حياتك بينهم، لعلهم آخر الأشخاص الذين ستلتقيهم، وهم أنفسهم من سيودعونك بعيون باكية وأنت تلفظ أنفاسك الأخيرة، بعد أن يفرغ جلادك من تعذيبك على آلة الموت، التي سميّت بطريقة قذرة "بساط الريح"، ذاك الذي سيوصلك بطيرانه السندبادي إلى عالم البرزخ، إن حاولت أن تقول "لا"!
ساد صمت رهيب بين المعتقلين الذين كنت أحدهم في ذلك اليوم "الأغبر"، حين انتشلتني يد الغدر، بلا مقدمات، تحت شمس أغسطس/ آب التي كادت أن تحرقني، وأنا موثق اليدين برباط بلاستيكي، خلف جدار من "كاوتشوك" عجلات السيارات، والذي اعتادوا أن يضعوا طرائدهم خلفه، ريثما يرسلونها إلى آلة الزمن التي تخرجه من هذا العالم.
ما إن وصلت سيارة شحن "الطرائد" حتى تحولت إلى رقم، مع أرقام أخرى كانت تنتظر رقماً لها، لتوضع في "صندوق الطرائد المعدني"، هي مدة لم أستطع أن أحدد كنهها، أهي دقائق؟.. ساعات؟.. أيام؟
لم أعد قادراً على الرؤية.. كلّ شيء حولي أشبه بالسراب.. ما أعيه تماماً هو أنني سأصبح من الآن فصاعداً رقماً بين آلاف الأرقام التي تدخل ذلك المكان القصيّ، من دون حلم بالخروج، ليمر الوقت بطيئاً.. ثقيلاً.. متخماً بالعدمية..
لسان حالك يقول: "هنا مرقدك الأخير.. القبر الذي تعيش فيه حياً، لتنتقل إلى القبر الآخر المخصص للموتى..
نافذة الباب الحديدي.. هي صلة الوصل بين حياتين: كنا نعيش الأولى، وبتنا نعيش الثانية.. هي النافذة التي تتحد العيون باتجاهها، لسماع اسم من سيخرج لـ"حفلة الاستقبال" ثم التحقيق، صوت إبليسي يصرخ بأعلى طاقته باسمي، لأنهض متثاقلاً، وعيوني تودّع رفاق المكان.. ربما إلى حيث لا عودة، بعد مغادرة هذاالمكان.. هي "حفلة استقبال" كما يسمونها، وكنا نسميها "الشبح".
توثق اليدين من الخلف، وتعلّقان برافعة، والتي بدورها ترتفع وترتفع، وكأن الروح ترتفع إلى خالقها، لكنك في لحظة الألم الشديد تشعر أنك مازلت قيد التعذيب، اللحظة التي تسمى- زوراً- حياة.. لا حوار بينك وبين أحد.. المتكلم الوحيد في هذه الحفلة، هو الكرباج المصنوع من جلد فاخر، بيد جلادك الذي ينتمي إلى جنسك البشري عن طريق الخطأ!
الكرباج ينهش جسدك، وأنت تصرخ بملء حنجرتك، بآهات طويلة وعميقة، إعجاباً بجلادك، وحفلته الممتعة، هو لا يريد أن يكلمك.. يريدك أن تموت، أو تصرّح بأنك عميل وخائن.. هو لا يريد أن يعرف قصتك.. لماذا قلت هذا؟ وهتفت كذا؟.. هو يريد أن يعلمك الأدب في حضرة الدكتاتور، والذي يقتل كل ما تطاوله يده.. هو لا يريد أن يتحاور معك في أي قضية.. يريد فقط إثبات الولاء المطلق للطاغية، من خلال موتك وتعذيبك، وعندما يتوقّف كرباجه عن الحوار معك.. ترى أسنانه الصفراء وهو يمج سيجارته المستوردة، ثم يحدّثك عن المؤامرة التي تحيكها ذات الدولة، والتي يتمتّع بدخانها، ويصمت هو، ويترك بقية الحوار لصديقه الكرباج الذي أصبح امتداداً ليده القذرة.
على الرغم من ضيق المكان والأجساد المتكدسة، كانت الضحكات تعلو في الفضاء الذي اختلطت فيه أمنيات الخروج بالسلامة، بآهات المعذبين تحت سياط الاستبداد، ذاك الانتظار الذي يملأ القلوب أملاً بشمس الغد التي ستشرق وتلفح الوجوه التي بدأت تتعب.. وبريق الأنظار التي تنتظر أن تفتح نافذة الباب لقراءة جدول المفرج عنهم.. عندها.. تبلغ القلوب الحناجر.. وتشتعل جذوة الأمل؛ ذلك الأمل الذي يكبو بين يدي سجّان يؤمن أن هذه الأجساد ما هي إلا حياة مذلة.. أو موت أكيد.. وفي لحظات الانسلاخ السعيد عن تلك الكتلة البشرية.. دموع من فرح لولادة جديدة.. ودموع حزن على مشاريع شهداء أشيح عنهم نظري.. لتبقى لي من ذكراهم.. صلوات على أرواحهم التي عمدت القلوب بالمحبة.
(سورية)