ما سمعتش يا غايب
حدوته حتتنا
عن قلب كان هايب
من حلوة حتتنا
(صلاح جاهين)
أربعون عاماً من الأمل الزائف، تتلصّصين مثل القطط، تلحسين جسدك بلسانك يومياً لتنظفي بقايا الغبار والأحلام والآمال التي كانت ولا تزال تنخر في عظامك، مثل السوس في الخشب، محفورة في قلبك الشجي، لينطبق عليك طابع الشجن، والحزن في غنائياتك الشعرية، وتعلّلين هذا بأنه طبيعة الشعب المصري البكّاء وسط أعظم فرحة، أم أنه أنت من صنَعَت لنفسها شجناً اختيارياً على بابه شكل غريب لوجه حمار ملصق على لوحة خشبية، مقسّمة ومنحوتة على قياس هذا الوجه الجلدي لذاك الحمار، ما القصة يا صديقتي؟ هل قمت بذبح أو قتل حمار من قبل واحتفظت برأسه على باب شقتك المتواضعة؟ هل هو فأل حسن أم ماذا؟ أم هو سخرية قاتلة مسمومة أن يكون الحمار شعارك؟
بأي مشاعر أشعر، وأنا آكل نفسي كالنيران، أبحث عن طفولتي الرعناء، عن عراك لحياتي المنبعث منه ألم، ظلمة، يأس ثم مرة أخرى ألم، أمل ضائع، وحلم تائه. أين صباي؟ أين ما كان وراح؟ هل تعود الأشياء كسابق عهدها؟ لا بد أن هناك خلاصاً يجعل من الأمور، أشياء مستساغة ومقبولة في حينها، ثم تتلوّن وتتبلور. عليّ أن أحسم حياتي الآن: ما هو الشعر؟ الحب؟ الإخلاص؟ تناول كل الأشياء. أدعو ربي على الدوام أن يلهمني صبراً مستحيلاً، لا يملّ ولا يكلّ من رحمته المضيئة في قلبي كلمعان اللؤلؤ والياقوت.
هل كان لا بد أن يحدث ما حدث؟ هل تأخرتُ كعادتي؟ أم جئت في غير الوقت المناسب؟ أنا مخزون من الأفكار والأشعار، أين أنا؟ أم أنه أنت فقط ما يطرحه عقلي الذي يعاند التوبة منك أيها الحبيب، ويجنح إلى يأس قائم غائر في عمق روحي كالوتد الحائر، لأنه من دونك، عندما تمر أحزاني فوق عباءتي، أشعر أنني امرأة هرمة فتك بها الحب الأوحدي السري.
عندما يأتي الخريف، تعصف بي رماله وعواصفه ورياحه المدمّرة، يؤكد قانون الزمن أنني امرأة هرمة، أتمتّع بحواسي الخمس وحاستي السادسة؛ الشعر، وأرى العالم دائرة بلورية زجاجية، أتلمس من خلالها ملامح الفرسان الثلاثة؛ الشعر، والأمل، والحب، وأسخر من فكرتي وأصرخ داخلي لكنه ليس فيلماً بوليسياً أو هندياً.
صدقوني يا أصدقائي. كنا نعيش الأحزان، ولا نجرؤ أن نقول إنها ستذهب هباء أو لن تحلّ بنا أو تفتك بجوارحنا الخاصة، ولكنها باتت وظهرت، وشاخت بداخلنا بعمق. يتعلّق في مخيلتي وجه عروس ثابت فوق الماء لحظة، ويتلاشى كبخار يتبدد، ثم أرى أمامي كل سواء، هل من أحد أن يبكي على اللبن المسكوب؟
يعتصرها الدمع ويسحقها النحيب، وتردّد اسمه مصحوباً بأصوات نعرفها. هذه الأصوات تحمل رنيناً ليس له صدى، طالعت مناظر لم تكن تحسبها باقية في نفسها، رغبت في الضحك برهة، ورغبت عنه في أعقابها وهي تلمح بين فرجات الحسرة والذهول مساحات دائرية ناعمة تقترب منها كظلال الضباب، وقد مضت في سرعة لتصعد درجاً ملتفّاً، خافت الأضواء، حتى تعبر دهليزاً يشتدّ فيه الضوء، كلما سارت قدماً بقلب مختلج وبصر ندي، للقاء حقيقي خاطف معه لم يخذل مخيلتها.
منذ عشرين عاماً ساقتني الأقدار وبراءة العمر، وكنت أمارس إحدى هوايات ذلك العمر الرومانتيكية، في بداية توظيفي مدرسة للغة العربية للمرحلة الإبتدائية، بعد دبلوم المعلمات الذي بجهدي وتفوّقي الدراسي حصلت بعده على بكالوريوس دار العلوم بتفوّق، كنت أعمل في "مدرسة باروط الابتدائية" وهي قرية صغيرة وكان أطفالها الفلاحون والفلاحات أغلبهم حفاة وأحياناً عراة ومتسخي الكفوف والأقدام.
أمام هذا العبث الذي عصف بكلّ جوارحي ومشاعري الجياشة في ذلك الوقت، كنت أوّل معلمة تحضر، وأتعمّد أن لا آخذ الحصة الأولى وربما الثانية، وأقضيها في تنظيف الأطفال وغسلهم بالمياه وتمشيط شعورهم أو شعورهن بل وحياكة ملابس لهم، أنا والأستاذة شوق؛ مدرّسة التدبير المنزلي، لامتلاكها ماكينة خياطة من نوع "سنجر". والأستاذة العظيمة شوق تقوم بتجميع المرايل الصفراء القديمة ونقوم سوياً بعمل بعض الإصلاحات اللازمة سواء بتضييقها أو توسيعها حسب سن ووزن كلّ طفل.
في مثل هذا اليوم من عشرين عاماً حصلت على لقب المعلمة المثالية في مدارس مركز باروط التابعة لمحافظة بني سويف، ثم في مراكز كثيرة خلال تنقّلاتي المستمرّة إلى أن صار اللقب على مستوى محافظتي الكبيرة: "أمل الفتاة والمعلمة المثالية إلى الأبد".
أربعون عاماً من الهزائم المتكرّرة داخل أروقة الغستابو، غستابو قلبك، داخل منزل الحبيب الكبير، الذي كان فيه فيض غامر من نشوة ساحقة، عندما تتبدّد السحب داخل الزرقة اللازوردية بين أمل وحبيب، في هذا المنزل إلى أروقة الغستابو الذي ينفيه البلدوزر الآن من أي وجود كان له. أيها البلدوزر المطيع لسيدك الإنسان يا لك من عملاق مفترس.
هذا المنزل الغستابوي فيه الحب الميت، الفرح الميت، الزمن الميت، كل تلك الكنوز المطمورة في الردم الآن، تتلامس برنّات، كالأجراس الصغيرة، تلعب حولها الريح. حيث الموت، إلى أن تستيقظ بهدوء. بهدوء تسحب أنفاسها، لتحرّك أجفانها المغلقة.
أتحسّس خصلات رأسك المتعبة، تسقط متراقصة منها ضحكة عذبة ليهفهف صوت الحبيب في أذنك ثم يهوي كزهرة الزيزفون على قبره، وتلخصين كل هذا، والآهة تتمطّى في صدرك قائلة بحسرة:
- كل ما أعدّي من هنا، أحس إن أنا اللي اتهديت وضاع عمري مش البيت اللي اتهد.
تقفين في مكانه الذي أصبح خراباً كالحجر، لا تبرحينه كقنّاص الظلمة وسط الفراغ الكبير، الذي لا يسمح بميلاد بصيص أمل. وسط السراب تتخيله أمام عينيها وهو يستند إلى سياج البيت ويداه مسدلتان، مطرق الطرف، بيتاً ورثه عن أبيه وجده، أسطحه وأرضيته مغطاة بالألواح الخشبية، أطرافها وجوانبها يكسوها اللون الأبيض.
عبس وجهها، حتى ظهرت التجاعيد طويلة على جبينها وتملّكها شعور، رهيب، لم تستطع أن تتخلّص منه وقد تحوّل إلى حقد أعمى على كل البيوت المجاورة له. فتلك البيوت لا تكنّ لها سوى الكراهية وهي تراها تقف سامقة عالية هكذا، ودّت لو تهدّها جميعاً. ساد صمت يبعث على الحيرة، نظرت حولها كمن يبحث عن شخص تنتظره، لكن أحداً لم يأت.
ساد صمت قاتل في غرفتها، حجرة لا تراها الشمس على مدار اليوم، ليس بها سوى عتمة خرساء تشبه الهواء المتجمّد، يملؤها بكاء طفل، وغناء صوتها الداعي للتصالح دون حائل دونه، الذي يصدر كصوت آت من القبور، لغيابه العبثي والمميت الذي كان بإمكانه أن يغيّر حياتها كلياً ويمرّرها من هذا البرزخ الخانق بنجاح.
كنت حمقاء لتصديق كثير من الأمور
نحن مخلوقات العالم السفلي
لا يمكننا تحمّل ثمن الحب
من داخل قلبي يتمزّق لمواصلة العرض
وأتخيل نفسي المحظية الهندوسية
وعلي أن أختار المهراجا
هو يحبني وهذا يساوي كل شيء
هو لم يحببني وهذا لا يساوي لي أي شيء
شكراً أيها البطل الورقي الذي صنعه خيالي الشعري شكراً.. لأنك أنقذتني من هوسي السحيق بالحب.
عند مفترق الطرق، حدث ما حدث، وكانت الأحداث السابقة المؤلمة ثم عمّ وهج الصباح فقلت:
ـ يا دي النور يا دي النور... ربنا يجعله خير.
عليّ أن أخاطب الورق، فهو أفضل لي في هذه الحالة، داخلتني أشياء لا يراد بها إلا الامتعاض لكارثة لا أريدها ولا أرجوها، الأشياء تجتمع لتفترق مالها من هدف أو غاية، الوحدة تخلق أموراً لا بد منها بين البشر، الاغتراب، ثم هذا ما يقال عليه دورة الزمن اللعين بمعنى الانهماك مع الحياة، كيف أبتعد عن بعضهم كيف؟ فهم يحاصروني من كلّ الاتجاهات.
الرحيل إلى كهف البطء
والليل والحفل والسكون
التفتُّ فلم أجد غير سراب
والغيم يسير يحجب عني لأعماقي
فضحتني عيوني بدموع ذكرى
غرسنا نبثة بين الشطآن
تركناها علنا نعود يوماً وتركنا معها غنوة
لكنه الرحيل إلى كهف البطء
سرت وفي وجه الحقول كلمة لم تقال
وصوت تحت الرماد
وقصيدة لم يسمح لها بالخروج من جمر النار
إنهم سارقو الأحلام
تركوا في الوادي أنشودة جراح يتغني بها الصغار
والعقل والغيم، وشيء يتوارى خلف الثمار
أيادي تعبث في وادي الصغار
همسوا همساً كالرصاص
يتساقط رويداً. سكيناً
يصمت أو يتكلم
فقد رحلوا إلى كهف البطء
* كاتبة من مصر