غيّرت العمالة التونسية وجهتها الخارجية باتجاه الدول العربية، بعد عقود من الهجرة نحو دول أوروبية، ولا سيما منها فرنسا وإيطاليا، حيث لم تعد هذه الوجهات "مغرية" لليد العاملة التونسية نتيجة الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها دول الاتحاد الأوروبي وانحسار فرص العمل هناك، مقابل أفق عمل أرحب في دول عربية، ولا سيما منها دول الخليج.
وتشهد الخارطة الجغرافية للمهاجرين التونسيين في السنوات الأخيرة تغيرات كبيرة، بعد دخول بلدان غير تقليدية في تركيبة الوجهات المستقطبة لليد العمالة التونسية بمختلف أنواعها، فيما تحتفظ أوروبا بالاستقطاب التاريخي، مما يبقي عدد المغتربين فيها الأعلى مقارنة بالدول الأخرى.
وأشارت بيانات إحصائية كشفت عنها وكالة التعاون الفني (وكالة حكومية لتسيير الهجرة للعمل بشكل رسمي) إلى أن أغلب الانتدابات الوظيفية التي تم تسجيلها في إطار التعاون الفني كانت من نصيب دول عربية، مؤكدة إبرام 19237 عقد عمل إلى حدود نهاية تموز/يوليو الماضي.
وقالت الوكالة إن البلدان العربية تصدرت قائمة المناطق الأكثر استقطاباً لليد العاملة بـ 14.198 متعاوناً، تليها أوروبا بـ 2.640 متعاوناً، وأميركا بـ 1.436 متعاوناً، فأفريقيا بـ 333 متعاوناً. ويعمل أغلب هؤلاء المتعاونين في قطاع الصحة والتعليم.
وتأتي قطر في المركز الأول من حيث استقطاب العمالة التونسية خلال شهر يوليو الماضي (188 منتدباً)، تليها السعودية (166 منتدباً)، ثم فرنسا (131 منتدباً)، والبلدان الأفريقية (91 منتدباً)، فألمانيا (89 منتدباً)، ثم كندا (75 منتدباً).
وفسّر الخبير الاقتصادي أشرف العيادي تراجع الطلب الأوروبي على اليد العاملة التونسية بحالة الركود التي تمر بها منطقة اليورو، وعدم قدرتها في الظرف الحالي على خلق فرص عمل، ما يجعل الطلب منحصراً في بعض الاختصاصات من دون غيرها.
وقال العيادي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الركود في أوروبا قد يخفض الطلب على المنتجات التونسية الموجهة للتصدير، ويقلص من فرص الاستثمار في تونس، إذا واجه الاقتصاد الأوروبي مشاكل سيولة.
وأشار إلى أن الأزمة الأوروبية يمكن أن تصدّر إلى تونس وقد تكون لها انعكاسات على التصدير ومخزون العملة الصّعبة، وبالتالي قدرة الاقتصاد التونسي على خلق مواطن شغل إضافية في الداخل والخارج.
وسُجل تراجع في الهجرة نحو أوروبا، بعد طفرة من سنوات "زحف" اليد العاملة التونسية نحو منطقة اليورو التي بدأت في ستينيات القرن الماضي وتواصلت إلى حدود نهاية الثمانينيات، قبل أن تتراجع في التسعينيات، بعد تشدد الدول الأوروبية في منح تأشيرات العمل للتونسيين.
وبسبب هذا التضييق وصعوبة الحصول على وثائق الإقامة القانونية، أصبحت الوجهات العربية هي الأكثر إقبالا من قبل التونسيين، فيما يفضل آخرون التوجه نحو البلدان الأفريقية التي بدأت تحقق نسب نمو عالية وتمثل فضاء هجرة جديدة لليد العاملة.
وشرحت الباحثة والأستاذة في جامعة العلوم بتونس، أحلام بن شريفة، أن الهجرة إلى أوروبا ستنحصر مستقبلا في اختصاصات معينة، مشيرة إلى أن الأفق هناك لا يزال مفتوحا في المجالات الإعلامية والاختصاصات الطبية، وهو ما يفسر هجرة كبيرة لخريجي هذه الاختصاصات في السنوات الأخيرة، مقابل انحسار فرص العمل في المجالات التقليدية.
وقالت بن شريفة، لـ "العربي الجديد"، إن القطاعات الصناعية الأوروبية التي كانت تستقطب اليد العاملة التقليدية لم تعد توفر عرضا كبيرا في فرص العمل، سواء اليد العاملة البسيطة أو المختصة من مهندسين وغيرها، ما يجعل خارطة الهجرة تتنقل نحو الدول التي توفر العرض الأكبر، ومنها الدول العربية والأفريقية وكندا.
وكشف تقرير التنمية البشرية للعالم العربي الصادر عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، مطلع العام الجاري، أن تونس تأتي في المركز الثاني عربيا من حيث هجرة الأدمغة إلى الخارج.
وقدرت المنظمة عدد الكفاءات العلمية التونسية التي هاجرت إلى الخارج منذ اندلاع الثورة التونسية في 2011 وحتى عام 2017 بـ 94 ألف شخص، تتراوح أعمارهم بين 25 و45 سنة، 84 في المائة منهم غادروا باتجاه دول عربية.
وأشار ذات التقرير إلى أنّه منذ 2011 ارتفع عدد التونسيين من ذوي الاختصاصات المهمة كالطب والصيدلة والهندسة الذين غادروا البلاد للعمل في الخارج، يضاف إليهم الطلبة التونسيون البالغ عددهم حوالي 60 ألفا من المحتمل ألا يعود عدد منهم إلى تونس بعد تخرجهم.
وبلغت نسبة البطالة في تونس، خلال الربع الأول من السنة الحالية، 15.3 في المائة، مسجلة بذلك انخفاضا طفيفا بنسبة 0.1 نقطة (15.4) بالمقارنة مع الربع الأول من 2018 وبـ 0.2 نقطة بالمقارنة مع الربع الرابع للسنة الماضية، مع تسجيل انخفاض طفيف في بطالة حاملي الشهادات العليا.