منطقة اليورو في أزمة اقتصادية عميقة واقتصاداتها أسوأ مما كانت عليه في عام 1998 الذي سبق تدشين العملة الواحدة، هكذا أبلغ رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي مؤتمراً مصرفياً عقد بفرانكفورت مساء الجمعة الماضي، لتدارس حال اليورو في أعقاب الهجوم الإرهابي على باريس.
فالمثل الإنجليزي القائل "المصائب لا تأتي فرادى"، ربما ينطبق على هذه المنطقة التي تغرق في أزمات متواصلة. وما تكاد تخرج من أزمة حتى تدخل في أخرى. فما كادت أن تخرج من أزمة الديون التي أوشكت أن تفلس بأكثر من أربع دول حتى دخلت أزمة اليونان، ثم جاءت أزمة اللاجئين، والآن تدخل في أزمة الإرهاب وكلف مكافحته وتداعياتها على اقتصاداتها بعد الهجوم الإرهابي المتوحش الذي نفذه ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" على باريس والتهديد بتنفيذ عملية مماثلة في بلجيكا.
وعلى الرغم من أنه من المبكر حساب الكلفة المالية والاقتصادية على اقتصاد فرنسا وبلجيكا وبقية دول اليورو في أعقاب هجوم باريس والتهديدات التي شلت حركة التجارة والمال في بلجيكا، فإنه من المؤكد أن اقتصاد فرنسا قبل يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني، وهو اليوم الذي وقع فيه الهجوم الإرهابي المتوحش على باريس، لن يكون الاقتصاد ذاته بعده.
فالإجراءات التي اتخذتها فرنسا من تعليق لاتفاقية حرية الحركة مع دول منطقة اليورو وحاملي تأشيرة شينغن وإعلان حالة الطوارئ وما يترتب عليه من كلف أمنية وعسكرية سيكون له تأثير سلبي كبير على الاقتصاد الفرنسي.
اقرأ أيضا: خسائر الذهب مستمرة مع توقعات برفع أسعار الفائدة
ويقول خبراء اقتصاد أوروبيون إن هذه الإجراءات الأمنية وإغلاق الحدود ستنسحب على اقتصادات دول منطقة اليورو وستساهم في إدخال اليورو في أزمة جديدة وربما تلغي كل أثر إيجابي لبرنامج التحفيز الكمي الذي أعلنه المركزي الأوروبي خلال العام الجاري وضخ ولا يزال يضخ بموجبه نحو ترليون يورو؛ "نحو 1.1 ترليون دولار".
وبحسب قراءة خبراء اقتصاد في لندن لتعليقات دراغي أمام كبار المصرفيين في مؤتمر فرانكفورت، فإن المصرف المركزي الأوروبي قلق من مستقبل النمو الاقتصادي في منطقة اليورو بعد هجوم باريس.
ويرى اقتصاديون أن المركزي الأوروبي ربما يتخذ في بداية شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل إجراءات جديدة لتحفيز اقتصاد منطقة اليورو.
ومن المتوقع أن تشمل هذه الإجراءات زيادة برنامج التحفيز المالي الجاري بمبالغ تراوح بين 60 إلى 80 مليار يورو شهرياً، كما أن هنالك توقعات بأنه سيخفض كذلك معدل الفائدة.
ومن مخاطر إجراءات مكافحة الإرهاب التي اتخذتها فرنسا في أعقاب الهجوم الإرهابي على باريس والتهديدات بعمليات أخرى في فرنسا وبلجيكا، أنها ستضرب تلقائياً ثقة المستهلك، كما أنها تحدّ من الحركة الشرائية في واحد من أهم المواسم التي تنعش القوة الشرائية.
ويلاحظ أن إنعاش القوة الشرائية يمثل حصان الرهان الذي كان يعول عليه المركزي الأوروبي في إخراج اقتصاد اليورو من الركود العميق.
اقرأ أيضا: الدولار الأميركي يرتفع بقوة ويهوي بأسعار الذهب
وعلى الرغم من أنه من المبكر حساب الكلف المالية التي ستترتب على إجراءات مكافحة الإرهاب التي اتخذتها فرنسا وستتخذها بقية دول منطقة اليورو، ولكن حتى الآن أعلنت المتاجر الكبرى وأماكن الترفيه في باريس انخفاضاً في المتسوقين ومرتاديها بنسبة تراوح بين 30 إلى 50%، كما أن شوارع كاملة ورئيسية في باريس باتت مغلقة.
وأغلقت شوارع بروكسل كاملة وانعدمت الحركة فيها خلال عطلة الأسبوع الحالي، وحتى إن المتسوقين في عواصم أوروبا الأخرى باتوا غير متحمسين للتسوق أو السهر أو ارتياد المقاهي والفنادق وأماكن الترفيه منذ الهجوم الإرهابي على باريس. وهو ما يعني أن الانكماش الاقتصادي سيتضاعف خلال العام المقبل، كما أن معدل البطالة سيرتفع وسط ضرب السياحة والتسوق وحركة المواطنين البينية بين دول اليورو.
ويكفي النظر إلى أرقام السياحة التي نشرها مجلس تطوير السياحة الفرنسية قبل أيام عن العام الماضي لمعرفة تأثير ضرب هذا القطاع المهم على النشاط الاقتصادي، والتنبؤ بحجم الأضرار الاقتصادية التي ستلحق بالاقتصاد الفرنسي.
وبحسب هذه الأرقام، فإن السياحة تساهم بنسبة 7.0% من الناتج المحلي الإجمالي في فرنسا، كما أنها توفر مليوني وظيفة. وزار فرنسا نحو 83.7 مليون سائح في عام 2014.
ومعروف أن باريس من العواصم التي يزورها أكثر من مليون من العائلات الأوروبية في عطلات الأسبوع للتسوق والترفيه ويعبر إليها الشباب الأوروبي في الأمسيات للترفيه. والحال لا يختلف في بلجيكا التي تعد شبه امتداد اقتصادي لفرنسا، وتحديداً تستفيد بلجيكا من الحركة السياحية في باريس.
في هذا الصدد، قال الخبير بمجموعة "إم كي جي" الاستشارية جورج بانايوتس لصحيفة الغارديان البريطانية "التداعيات الاقتصادية لهذا الهجوم الإرهابي على باريس ستكون أكبر كثيراً من حادثة تشارلي إيبدو".
وأضاف أن الفنادق الفاخرة والمطاعم الشهيرة ستتأثر لأن روادها أكثر حساسية تجاه التهديدات الأمنية، وخاصة فنادق مثل جورج الخامس وبلازا لاتينيه وما شابهها من مناطق الترفيه الراقية التي يرتادها الأثرياء من أنحاء العالم في هذا الموسم.
وفي أولى دلائل تأثير الهجوم الإرهابي على منطقة اليورو، علقت فرنسا سقف العجز في الميزانية، إذ إنها قررت زيادة الإنفاق الأمني والعسكري، وهو ما يعني أنها ستتجاوز نسبة الثلاثة في المائة التي حددتها المفوضية الأوروبية للعجز في ميزانيات الدول.
أما على الصعيد المالي، فإن منطقة اليورو ربما ستشهد هروباً لرؤوس الأموال في الفترة المقبلة، لأن إجراءات التشديد في التحويلات وحركة نقل الأموال، وتنقل المستثمرين، إضافة إلى ضعف العائد الاستثماري المتوقع على رأس المال سيحد من معدلات الاستثمار في أوروبا، وخاصة أن معظم الاستثمارات الأجنبية في أوروبا تضخ في الفنادق والعقارات الفخمة وأماكن الترفيه وشركات السياحة.
وهناك تقارير حتى قبل حدوث هذا الهجوم الإرهابي تتحدث عن احتمال هروب أكثر من ترليون دولار من منطقة اليورو إلى أميركا وآسيا.
وسعت فرنسا يوم السبت إلى تطمين المفوضية الأوروبية بشأن تجاوز سقف العجز الميزانية ولكن هذه التعهدات من الصعب الإيفاء بها في ظل التداعيات السالبة الخطيرة على الاقتصاد.
وفي هذا الصدد قال وزير الاقتصاد الفرنسي إيمانويل ماكرون مساء السبت إن بلاده ستفي بتعهداتها المالية بعد أن أعلنت باريس زيادة الإنفاق الأمني في أعقاب الهجمات الدموية. وبحسب رويترز قال ماكرون للصحافيين "نحن نتحدث عن فارق صغير جداً".
وأضاف ماكرون "الظروف الاستثنائية تبرر اتخاذ قرارات استثنائية. لقد تقدمنا بها إلى المفوضية الأوروبية. لا أعتقد أنها ستغير أي شيء على الأرجح".
وكان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قد تعهّد في خطاب له يوم الإثنين بتوفير خمسة آلاف فرصة عمل في قوات الأمن وتجنب خفض الإنفاق في مجال الدفاع حتى 2019، مشيراً إلى أن "ميثاق الأمن يفوق ميثاق الاستقرار" في إشارة إلى القيود التي تفرضها منطقة اليورو على موازنات الدول الأعضاء.
اقرأ أيضا: أوروبا تشدد الرقابة على التحويلات المالية والبطاقات البلاستيكية