12 مايو 2015
أزمة الليبرالية المصرية.. من يمثلونها ومن يمثلون بها؟
عندما يموت المبدأ، فهذه هي القضية.
لا أفهم أن يدّعي بعضهم أنه يمثل الليبرالية المصرية، وهو يمثل بها.
لا أفهم لماذا يستوطي بعضهم حيطاننا، فيقف تحت لافتاتنا، ويدعس بقدمه قيمنا وثوابتنا، ويضنُّ علينا أن نخالفه. نال الساعون إلى لسلطان ما اشتهوا.. وكفى.
لا أفهم أن تقول إنك ليبرالي أو مدني، وأنت مع الحكم العسكري؟
لا أفهم أن تقول إنك ليبرالي أو مدني، وأنت لا تحترم الحقوق والحريات العامة، وتبرر اغتيالها ثمناً لصراع سياسي، مهما كان قدر الصواب في موقفك منه؟
لا أفهم أن تقول إنك ليبرالي أو مدني، وتغتال كل صباح قيم المواطنة والمساواة والعدالة، وحقوق الإنسان، وأنت تبرر هذا بدعوى أن غيرك من التيارات فعلها معك، فلمَ لا نفعلها.
أنت أيضاً معه. لا أفهم أن تقول إنك ليبرالي أو مدني، وتقبل أن يكون في الوطن الواحد، دم أحمر وأخر أزرق، ولا ترى عاراً أن يسفك هذا، بغير دم، أو عقاب، أو ثمن، أو محاسبة، في كيل فاضح بمكيالين، على خلفية سياسية؟
لا أفهم أن تقول إنك ليبرالي أو مدني، وأنت لا تقبلُ بالآخر، وتمارس نفيه، وتجيز إطاراً قانونياً، ودستورياً، لتنظيم هذا الإقصاء، بدعوى أنك مع ثورة قامت، كان في مقدمة ما أعلن عنه في أهدافها "مواجهة الإقصاء"؟
لا أفهم أن ترفع شعار "من ليس معي فهو ضدي"، ومن ليس متطابقاً في موقفه مع موقفي، هو خائن، وأنت تنتمي إلى مدرسة إنسانية، تقوم على فكرة الحرية، وتصون حقوق الأقلية قبل الأغلبية، وتتسامح مع الآخر، وتقدس حقه في الوجود، وتموت دفاعاً عن هذه الحقوق.
الليبرالية الحقيقية هي قيم إنسانية غير قابلة للتجزئة، ولا للبيع، ولا للاستثناء، ولا للتفضيل، وفقاً للمصلحة، أو الخطة، بل هي قيم حاكمة، ودائمة، ترى الحق حقاً، والباطل باطلاً، حتى لو كان بطل الحق، لا يستحق الدفاع عنه، ولو كان بطل الباطل، واحداً منا.
××××××
هذه هي الليبرالية المصرية التي لم تتصادم يوماً مع الدين، أو القيم الإنسانية، والأخلاقية، ولم تتعارض يوماً مع حقوق الإنسان، ولم تكن في أي وقت مع معسكر الباطل.
أما الليبرالية المغشوشة فهي كالأسلحة الفاسدة، والتي نصيب أصحابها قبل خصومها.
ويبدو أن هذا ما حدث، في الفترة الأخيرة في مصر، وما أحوجنا الآن، والآن تحديداً، إلى تشريح المشكلة، بعيداً عن التجريدات الفكرية، والتهويمات النظرية، من دون إرجاء، أو إبطاء، فالليبرالية المصرية هي المظلة التي يمكن أن تعصمنا من كل ما يعترينا من أزمات، ومخاطر متفجرة، وقنابل موقوتة، إذا خرجت هذه الليبرالية من أزمتها، واستردت بضاعتها. فتوصيف واقع الليبرالية المصرية في عام 2014 بالأزمة، والإصرار على هذا المعنى، ليس انسياقاً وراء "موضة" إطلاق هذا التعبير (الأزمة) على حالة كل شيء، مثلما هو سائد في الكتابات الفكرية، والسياسية، في مصر، والمنطقة العربية، إنما هو انعكاس موضوعي صادق، وتعبير مباشر عن واقع الأزمة، وإشكالات حقيقية بشأنها، لم يعد مقبولاً تجاهلها، أو السكوت عنها. وسأطرح، في البداية، بعض الأسئلة:
هل هناك ليبرالية حقيقية؟ وليبرالية مغشوشة؟ هل العيب في الليبرالية أم في الليبراليين أنفسهم؟، وهل هؤلاء ليبراليون فعلاً؟ أعترف أن هذه الأسئلة ليست بريئة، ذلك لأن ذهني متصالح مع إجاباتٍ بعينها، قبل طرح هذه الأسئلة، وطرحها محاولة لفهم ما يحدث من أفعال ومواقف متصادمة مع القيم والمبادئ الليبرالية؟ وما يحدثه هذا من خلط والتباس لا بد من مواجهته، وكشف أسبابه ومخاطره، وكيفية الخروج من هذه الأزمة الأخلاقية والسياسية.
أعتقد أن الإجابة عن سؤال: هل هؤلاء ليبراليون فعلاً يقتضي الإشارة إلى أن أزمة التيار الليبرالي، منذ زمن بعيد، تتصل بحالة "الترانزيت" السياسي الذي قامت به قوى غير ليبرالية، مستغله الإطار الليبرالي "الفضفاض" الذي وقفت تحت لافتته سنوات، قبل تشكيل تيارات وجماعات، فكرية وسياسية وحزبية وحركية، تعبر عن أفكارها، كما حدث في حالة الطليعة الوفدية، قبل 1952، التي كانت يسارية الهوى، والعقل والقلب، إلا انها عاشت في كنف "الوفد"، عندما كان هذا الحزب في ذلك الوقت "قمة الهرم الليبرالي المصري"، ثم ما لبثت أن شكلت كياناتها، الأكثر تعبيراً عن مواقفها الحقيقية متجهة إلى اليسار در.
وعقب تراجع حركة اليسار دولياً في التسعينيات، بفعل المتغيرات الكونية، وتحلل الاتحاد السوفياتي، عادت بعض هذه القوى إلى حالة "الترانزيت السياسي"، لتقف مرة أخرى تحت لافتة "الليبرالية" التي اتسعت، مرة أخرى، لقوى تسمي نفسها بالقوى الديمقراطية والمدنية، في إطار التعلق بقيم مشتركة مع القوى الليبرالية "الأصلية"، وتحت ضغط ضعفها، في مواجهة الاستبداد. لكن حقيقة الأمر أن تلك القوى، عندما كانت في حالة الترانزيت "الأول"، قبل تأسيس كيانيتها، ذهبت إلى هذه الكيانات بقيم ليبرالية. وعندما عادت، مرة أخرى، عادت إلينا بالقيم التي تشكلت في كياناتها، وهي ليست، في معظمها، قيماً ديمقراطية، بقدر ما كانت قيماً اجتماعية، واقتصاديه "شمولية"، أو على الأقل، لا تتصادم مع القيم والتوجهات الشمولية، بل هي أسيرة لها، وأسيرة لمواقفها مثلا من الحكم العسكري، والذي استمدت بعض هذه القوى وجودها من وجوده، والدفاع عنه. ويصعب عليها مواجهته، الآن، بدعوى "المدنية"، لأنها تستمد شرعيتها منه.
ولأن حركة التاريخ ترفض مبدأ "الإيجارات الطويلة"، أو "الترانزيت الدائم"، فقد كانت التغيرات الواسعة التي صاحبت ثورة يناير 2011 كاشفة لعناصر التباين بين ليبرالية ديمقراطية، مدنية "حقيقية" وليبرالية "مغشوشة"، أو على الأقل مكتسبة، وغير أصلية، بوصفها محطة "ترانزيت".
وأصبح من قبيل التضليل، أو الخلط، أو الخطأ، غير المقبول، الحديث عن القوى المدنية والليبرالية في إطار ونسق واحد، بوصفها كياناً سياسياً، أو أيديولوجياً، أو فكرياً واحداً، بينما التصادم بين مرجعياتها وخبراتها وأهدافها واسع الهوة.
×××××××
وأحسب أن الأحداث ما بعد 11 فبراير 2011، لحظة رحيل شخص حسني مبارك، كشفت أن توحد القوى المدنية، لم يكن إلا تحت ضغط لحظة الخلاص من مبارك، حيث كانت القوى الليبرالية واليسارية والإسلامية، والحركات الثورية المتعددة التوجهات في خندق واحد، بينما مبارك ومعظم نظامه، ودولته في الخندق الاَخر.
الأكثر إثارة، للأسف، أن أحداث (ما قبل 30 يونيو/حزيران، وما بعد 3 يوليو/تموز) دمجت نظام مبارك ورجاله ودولته العميقة، في إطار تحالف أطلقوا عليه ظلماً "تحالف القوى الليبرالية والمدنية"، في مواجهة أحد مكونات التحالف السابق "تحالف يناير 2011"
وبالفعل، انخرطت قوى مجتمعية، وسياسية متباينة المواقف في إطار (معسكر 3 يوليو) في مواجهة تيار سياسي مختلفٍ معها، وهو أمر "مشروع" إذا لم يفرط أي من مكوناته في المبادئ التي قام عليها، ولا يمكن فهم، أو تبرير، التخلي عنها، ولو بصورة تكتيكية مؤقتة. وهنا تكمن الإشكالية الحقيقية المتمثلة في أن بعض القوى الديمقراطية والليبرالية، في غمار معركتها السياسية، قبل 3 يوليو وبعده، لم تُعنَ بالدرجة الكافية، ولا بأي درجة، في مرحلة لاحقة، بالثوابت الليبرالية، والمدنية، والديمقراطية، والتي لم يكن مقبولاً التخلي عنها، أو المناورة حولها، بدعوى الخطر الأكبر، أو الشيطان الأعظم، أو المعركة الأولى بالرعاية، على طريقة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، بينما كانت هناك قوى ليبرالية أخرى ترى أن السؤال الأهم: هل يمكن قبول ثمن يتم تسديده على فاتورة الثوابت والقيم؟
المسافة بين ما يمكن أن نسميه ليبرالية وما يمكن أن نراه ليبرالية "مغشوشة" تبدو واضحة، إذا ما استحضرنا حالة 3 يوليو، وليس 30 يونيو، ومراجعة ما اَلت إليه الأوضاع الديمقراطية والإنسانية في مصر، وهل هي من قبيل تحقيق القيم الليبرالية، أم اغتيالها، ونسفها كلياً؟
والمسافة بين الليبرالية والليبرالية المغشوشة هي تلك المسافة بين الدكتور حازم الببلاوي 1993، وشبيهه الذي ظهر بعد 20 عاماً في 2013، متقلداً حكومة مصر. الأول أصدر كتاباً "عن الديمقراطية الليبرالية" من مطبوعات دار الشروق، والثاني سار عكس خط سير كل سطر خطه في كتابه ذاك، مسطراً كتاباً جديداً، لسان حال عنوانه "عن الديمقراطية والليبرالية المغشوشة".
وإذا كانت خيانة القيم الليبرالية، وانتحال بعضهم هذه الصفة، والوقوف تحت لافتتها، وهم ينتمون فكرياً إلى قيم مغايرة لها، وجهاً من وجوه الأزمة، من خارج التيار الليبرالي الحقيقي، فهناك أزمات من داخل التيار الليبرالي، مثلاً:-
على الرغم من تراثها العريق، وثوابتها غير المتصادمة مع مقدسات المجتمع المصري، منذ تبنى رفاعة رافع الطهطاوي، وعدد من كبار علماء الأزهر، قيماً ليبرالية، أمثال الإمام المجدد محمد عبده، أو الشيخ حسن العطار، وسعد زغلول وغيرهم، إلا أن جيلاً من الشباب الليبرالي "الحقيقي"، بات يأخذ من غيره، من دون أن يفكر فيما لديه، يتلبس أَرديته، بل ينتحل محتويات روحه، ويلتقط القشور، من أفكاره، فأضاعوا الهوية الليبرالية المصرية الحقيقية بالمحاكاة، والاستعارة والانتحال من تجارب أخرى.
×××××××
هذه الفئة من الليبراليين "المحدثين" لم تترك ليبرالياً، إلا وناوأته حتى نأى، وما واجهت موقفاً ليبرالياً حتى أنكرته، وفرضت قيماً منقولة بغير فهم. وأضرب مثالاً، أنه في عام 2009-2010 دعتني إلى نيويورك جامعات ومراكز أبحاث في زيارة أولى لنيويورك، لم تتم، عندما استعان نظام مبارك بمراكز لصناعة الرأي في أميركا لإفساد الزيارة، ولم تجد هذه المراكز عوناً لها أفضل من شابين، ينتميان للحركة الليبرالية، خرجوا بلا حياء في الإعلام الأميركي، يطالبون بمنع زيارتي بوصفي معادياً للسامية، والدولة اليهودية، والقيم الليبرالية بالمفهوم الذي تعلموه، وبالمخالفة لما جهلوه. وانتهى الأمر بفشل جهدهم، ما أدى إلى إصدار الدولة المصرية قراراً بمنعي من السفر لإلقاء المحاضرات. وكان ألمي الأكبر أن يرفع بعض الشباب الليبرالي مثل هذه اللافتات، عن قصد أو عن جهل، فيشوهون جسداً كبيراً سوياً وسليماً.
الإشكالية الداخلية الثانية هي الخلط بين ما هو ليبرالي وما يمكن أن يقال إنه رأسمالي، وما يمكن أن يقال إنه محافظ، خصوصاً وأن بعضهم يقع، بغير قصد، في هذا الخلط، نتيجة انتهاج سياسات رأسمالية، أو محافظة، في ظل أنظمةٍ، أو مجتمعات ذات ميول ليبرالية. ويتضح هذا الخلط في بريطانيا في عهد مارغريت تاتشر المحافظة، أو في حالة الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس ريغان، حيث اختلط النهج السياسي الخاص بكل منهما ومفهوم الليبرالية. وضاعت الخطوط الفاصلة بين ما هو ليبرالي وما هو محافظ، ما دفع بعضهم إلى الخلط والمغالطات في التقدير والتقييم.
ثالث إشكاليات الليبرالية المصرية أن بعضهم يقضم من الفكر الليبرالي ما يراه، ويتصور أنه هضم الأمر كله. فمن المغالطات الشائعة حصر المفهوم الليبرالي في إطار الجانب الاقتصادي في محاولة لإجهاض المفهوم الشامل للفكر الليبرالي، باعتباره منظومةً من الأفكار التي تعلي شأن الفرد، وتعنى بشكل «رسالي» بحريته في الاختيار، والانتماء، والملكية، والقرار، وحقه في المشاركة في عقد اجتماعي يرتضيه، في ظل مجتمع يوفر ضمانات الحرية بأشكالها الديمقراطية والتوازن الطبيعي في المجتمع.
وآخر إشكالات الليبرالية المصرية اليوم هي تطور الفكر الليبرالي عالمياً، من جانب وخصوصية التركيبة الليبرالية في كل مجتمع، وفقاً للظروف التاريخية للنشأة والتطور الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، ووفقاً لمنظومة متباينةٍ من العوامل التراثية والفكرية والعقائدية، والتي تختلف من مجتمع إلى آخر. فالليبرالية بمفهوم «دعه يعمل دعه يمر» كان طبيعياً أن تتطور، في ظل ما نتج في أثناء الثورة الصناعية في أوروبا من خلل اجتماعي، وسياسي، طور بآلية ذاتية مفهوم الليبرالية، في إطار نضال ليبرالي، لتكريس مفاهيم عديدة، لتحقيق مكاسب إنسانية، واجتماعية، وسياسية جديدة، ولم تكن واضحةً في إطار ما يمكن أن نسميها الليبرالية الأولى، والتي كانت لا تعترف إلا بالفرد، ولا تعترف بأي كيان اجتماعي آخر.
ثم يأتي التطور، في مرحلةٍ لاحقةٍ، ليكون الاعتراف بالكيانات الاجتماعية الأخرى في إطار كونها وسيلةً ليعبر الفرد فيها عن ذاته، ثم يأتي مفهوم الدولة في الفكر الليبرالي. كما أوضح جان لوك، باعتبارها أداة في أيدي الأغلبية، وليس الفرد، لتحقق مصالح هذه الأغلبية، وتحمي حقوقها. وقد جعل هذا التطور المستمر في مفهوم الليبرالية، سياسياً، واقتصادياً، هناك من خطوط التلاقي والتماس بينهما وبين الأفكار التي يمكن وصفها بالوسطية، باعتبارها ترفض ديكتاتورية البروليتاريا والصراع الطبقي والهيمنة الكاملة للدولة، كما أنها تأخذ ببعض جوانب الحريات الفردية.
وأحسب أن الاشكاليات السابقة، في الوصول إلى تعريف لفظي مجرد لمفهوم الليبرالية، لا تعني، بأي حال، استحالة التعريف الدقيق. أو هلامية ملامح الفكر الليبرالي، أو صعوبة الفصل بينه وبين غيره من الأفكار الأخرى، بقدر ما تعني تطور الفكر الليبرالي ومرونته، بصور تتيح لنا تعريفه بشكل تحكمي في إطار مراحله الزمنية المختلفة، وفي إطار الخصوصية المكانية والجغرافية لكل مجتمع. فالليبرالية تحرر الفرد، وتضع بعض القواعد، لتنظيم هذه الحرية، والاشتراكية الديمقراطية تضع قواعد تقيد الفرد، ثم تمنحه بعض الحرية.
××××××××
الخلاصة أن قضيتنا الأساسية ليست فقط فيمن يستوطي حيطان الليبرالية المصرية، ويقف تحت لافتاتها، على الرغم من تصادمه مع قيمها ومبادئها وثوابتها وليست، فقط، في تلك الليبرالية المغشوشة التي يروج لها بعضهم، مثل مروجي السلع المغشوشة والفاسدة. وليست في ممارسات استبدادية، يلبسها بعضهم زوراً ثوباً ليبرالياً. وليست في تلك الأفكار المنقولة بجهل من بعض شبابنا، والتي تسيء إلى الأغلبية السوية.
مشكلتنا الكبرى هي غياب المعايير الواضحة، أو تغييبها، عمداً، لأهداف سلطوية، هي أبعد ما تكون عن رسالتنا التي تؤمن بالإنسان والحرية والتعددية السياسية.
لا أفهم أن يدّعي بعضهم أنه يمثل الليبرالية المصرية، وهو يمثل بها.
لا أفهم لماذا يستوطي بعضهم حيطاننا، فيقف تحت لافتاتنا، ويدعس بقدمه قيمنا وثوابتنا، ويضنُّ علينا أن نخالفه. نال الساعون إلى لسلطان ما اشتهوا.. وكفى.
لا أفهم أن تقول إنك ليبرالي أو مدني، وأنت مع الحكم العسكري؟
لا أفهم أن تقول إنك ليبرالي أو مدني، وأنت لا تحترم الحقوق والحريات العامة، وتبرر اغتيالها ثمناً لصراع سياسي، مهما كان قدر الصواب في موقفك منه؟
لا أفهم أن تقول إنك ليبرالي أو مدني، وتغتال كل صباح قيم المواطنة والمساواة والعدالة، وحقوق الإنسان، وأنت تبرر هذا بدعوى أن غيرك من التيارات فعلها معك، فلمَ لا نفعلها.
أنت أيضاً معه. لا أفهم أن تقول إنك ليبرالي أو مدني، وتقبل أن يكون في الوطن الواحد، دم أحمر وأخر أزرق، ولا ترى عاراً أن يسفك هذا، بغير دم، أو عقاب، أو ثمن، أو محاسبة، في كيل فاضح بمكيالين، على خلفية سياسية؟
لا أفهم أن تقول إنك ليبرالي أو مدني، وأنت لا تقبلُ بالآخر، وتمارس نفيه، وتجيز إطاراً قانونياً، ودستورياً، لتنظيم هذا الإقصاء، بدعوى أنك مع ثورة قامت، كان في مقدمة ما أعلن عنه في أهدافها "مواجهة الإقصاء"؟
لا أفهم أن ترفع شعار "من ليس معي فهو ضدي"، ومن ليس متطابقاً في موقفه مع موقفي، هو خائن، وأنت تنتمي إلى مدرسة إنسانية، تقوم على فكرة الحرية، وتصون حقوق الأقلية قبل الأغلبية، وتتسامح مع الآخر، وتقدس حقه في الوجود، وتموت دفاعاً عن هذه الحقوق.
الليبرالية الحقيقية هي قيم إنسانية غير قابلة للتجزئة، ولا للبيع، ولا للاستثناء، ولا للتفضيل، وفقاً للمصلحة، أو الخطة، بل هي قيم حاكمة، ودائمة، ترى الحق حقاً، والباطل باطلاً، حتى لو كان بطل الحق، لا يستحق الدفاع عنه، ولو كان بطل الباطل، واحداً منا.
××××××
هذه هي الليبرالية المصرية التي لم تتصادم يوماً مع الدين، أو القيم الإنسانية، والأخلاقية، ولم تتعارض يوماً مع حقوق الإنسان، ولم تكن في أي وقت مع معسكر الباطل.
أما الليبرالية المغشوشة فهي كالأسلحة الفاسدة، والتي نصيب أصحابها قبل خصومها.
ويبدو أن هذا ما حدث، في الفترة الأخيرة في مصر، وما أحوجنا الآن، والآن تحديداً، إلى تشريح المشكلة، بعيداً عن التجريدات الفكرية، والتهويمات النظرية، من دون إرجاء، أو إبطاء، فالليبرالية المصرية هي المظلة التي يمكن أن تعصمنا من كل ما يعترينا من أزمات، ومخاطر متفجرة، وقنابل موقوتة، إذا خرجت هذه الليبرالية من أزمتها، واستردت بضاعتها. فتوصيف واقع الليبرالية المصرية في عام 2014 بالأزمة، والإصرار على هذا المعنى، ليس انسياقاً وراء "موضة" إطلاق هذا التعبير (الأزمة) على حالة كل شيء، مثلما هو سائد في الكتابات الفكرية، والسياسية، في مصر، والمنطقة العربية، إنما هو انعكاس موضوعي صادق، وتعبير مباشر عن واقع الأزمة، وإشكالات حقيقية بشأنها، لم يعد مقبولاً تجاهلها، أو السكوت عنها. وسأطرح، في البداية، بعض الأسئلة:
هل هناك ليبرالية حقيقية؟ وليبرالية مغشوشة؟ هل العيب في الليبرالية أم في الليبراليين أنفسهم؟، وهل هؤلاء ليبراليون فعلاً؟ أعترف أن هذه الأسئلة ليست بريئة، ذلك لأن ذهني متصالح مع إجاباتٍ بعينها، قبل طرح هذه الأسئلة، وطرحها محاولة لفهم ما يحدث من أفعال ومواقف متصادمة مع القيم والمبادئ الليبرالية؟ وما يحدثه هذا من خلط والتباس لا بد من مواجهته، وكشف أسبابه ومخاطره، وكيفية الخروج من هذه الأزمة الأخلاقية والسياسية.
أعتقد أن الإجابة عن سؤال: هل هؤلاء ليبراليون فعلاً يقتضي الإشارة إلى أن أزمة التيار الليبرالي، منذ زمن بعيد، تتصل بحالة "الترانزيت" السياسي الذي قامت به قوى غير ليبرالية، مستغله الإطار الليبرالي "الفضفاض" الذي وقفت تحت لافتته سنوات، قبل تشكيل تيارات وجماعات، فكرية وسياسية وحزبية وحركية، تعبر عن أفكارها، كما حدث في حالة الطليعة الوفدية، قبل 1952، التي كانت يسارية الهوى، والعقل والقلب، إلا انها عاشت في كنف "الوفد"، عندما كان هذا الحزب في ذلك الوقت "قمة الهرم الليبرالي المصري"، ثم ما لبثت أن شكلت كياناتها، الأكثر تعبيراً عن مواقفها الحقيقية متجهة إلى اليسار در.
وعقب تراجع حركة اليسار دولياً في التسعينيات، بفعل المتغيرات الكونية، وتحلل الاتحاد السوفياتي، عادت بعض هذه القوى إلى حالة "الترانزيت السياسي"، لتقف مرة أخرى تحت لافتة "الليبرالية" التي اتسعت، مرة أخرى، لقوى تسمي نفسها بالقوى الديمقراطية والمدنية، في إطار التعلق بقيم مشتركة مع القوى الليبرالية "الأصلية"، وتحت ضغط ضعفها، في مواجهة الاستبداد. لكن حقيقة الأمر أن تلك القوى، عندما كانت في حالة الترانزيت "الأول"، قبل تأسيس كيانيتها، ذهبت إلى هذه الكيانات بقيم ليبرالية. وعندما عادت، مرة أخرى، عادت إلينا بالقيم التي تشكلت في كياناتها، وهي ليست، في معظمها، قيماً ديمقراطية، بقدر ما كانت قيماً اجتماعية، واقتصاديه "شمولية"، أو على الأقل، لا تتصادم مع القيم والتوجهات الشمولية، بل هي أسيرة لها، وأسيرة لمواقفها مثلا من الحكم العسكري، والذي استمدت بعض هذه القوى وجودها من وجوده، والدفاع عنه. ويصعب عليها مواجهته، الآن، بدعوى "المدنية"، لأنها تستمد شرعيتها منه.
ولأن حركة التاريخ ترفض مبدأ "الإيجارات الطويلة"، أو "الترانزيت الدائم"، فقد كانت التغيرات الواسعة التي صاحبت ثورة يناير 2011 كاشفة لعناصر التباين بين ليبرالية ديمقراطية، مدنية "حقيقية" وليبرالية "مغشوشة"، أو على الأقل مكتسبة، وغير أصلية، بوصفها محطة "ترانزيت".
وأصبح من قبيل التضليل، أو الخلط، أو الخطأ، غير المقبول، الحديث عن القوى المدنية والليبرالية في إطار ونسق واحد، بوصفها كياناً سياسياً، أو أيديولوجياً، أو فكرياً واحداً، بينما التصادم بين مرجعياتها وخبراتها وأهدافها واسع الهوة.
×××××××
وأحسب أن الأحداث ما بعد 11 فبراير 2011، لحظة رحيل شخص حسني مبارك، كشفت أن توحد القوى المدنية، لم يكن إلا تحت ضغط لحظة الخلاص من مبارك، حيث كانت القوى الليبرالية واليسارية والإسلامية، والحركات الثورية المتعددة التوجهات في خندق واحد، بينما مبارك ومعظم نظامه، ودولته في الخندق الاَخر.
الأكثر إثارة، للأسف، أن أحداث (ما قبل 30 يونيو/حزيران، وما بعد 3 يوليو/تموز) دمجت نظام مبارك ورجاله ودولته العميقة، في إطار تحالف أطلقوا عليه ظلماً "تحالف القوى الليبرالية والمدنية"، في مواجهة أحد مكونات التحالف السابق "تحالف يناير 2011"
وبالفعل، انخرطت قوى مجتمعية، وسياسية متباينة المواقف في إطار (معسكر 3 يوليو) في مواجهة تيار سياسي مختلفٍ معها، وهو أمر "مشروع" إذا لم يفرط أي من مكوناته في المبادئ التي قام عليها، ولا يمكن فهم، أو تبرير، التخلي عنها، ولو بصورة تكتيكية مؤقتة. وهنا تكمن الإشكالية الحقيقية المتمثلة في أن بعض القوى الديمقراطية والليبرالية، في غمار معركتها السياسية، قبل 3 يوليو وبعده، لم تُعنَ بالدرجة الكافية، ولا بأي درجة، في مرحلة لاحقة، بالثوابت الليبرالية، والمدنية، والديمقراطية، والتي لم يكن مقبولاً التخلي عنها، أو المناورة حولها، بدعوى الخطر الأكبر، أو الشيطان الأعظم، أو المعركة الأولى بالرعاية، على طريقة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، بينما كانت هناك قوى ليبرالية أخرى ترى أن السؤال الأهم: هل يمكن قبول ثمن يتم تسديده على فاتورة الثوابت والقيم؟
المسافة بين ما يمكن أن نسميه ليبرالية وما يمكن أن نراه ليبرالية "مغشوشة" تبدو واضحة، إذا ما استحضرنا حالة 3 يوليو، وليس 30 يونيو، ومراجعة ما اَلت إليه الأوضاع الديمقراطية والإنسانية في مصر، وهل هي من قبيل تحقيق القيم الليبرالية، أم اغتيالها، ونسفها كلياً؟
والمسافة بين الليبرالية والليبرالية المغشوشة هي تلك المسافة بين الدكتور حازم الببلاوي 1993، وشبيهه الذي ظهر بعد 20 عاماً في 2013، متقلداً حكومة مصر. الأول أصدر كتاباً "عن الديمقراطية الليبرالية" من مطبوعات دار الشروق، والثاني سار عكس خط سير كل سطر خطه في كتابه ذاك، مسطراً كتاباً جديداً، لسان حال عنوانه "عن الديمقراطية والليبرالية المغشوشة".
وإذا كانت خيانة القيم الليبرالية، وانتحال بعضهم هذه الصفة، والوقوف تحت لافتتها، وهم ينتمون فكرياً إلى قيم مغايرة لها، وجهاً من وجوه الأزمة، من خارج التيار الليبرالي الحقيقي، فهناك أزمات من داخل التيار الليبرالي، مثلاً:-
على الرغم من تراثها العريق، وثوابتها غير المتصادمة مع مقدسات المجتمع المصري، منذ تبنى رفاعة رافع الطهطاوي، وعدد من كبار علماء الأزهر، قيماً ليبرالية، أمثال الإمام المجدد محمد عبده، أو الشيخ حسن العطار، وسعد زغلول وغيرهم، إلا أن جيلاً من الشباب الليبرالي "الحقيقي"، بات يأخذ من غيره، من دون أن يفكر فيما لديه، يتلبس أَرديته، بل ينتحل محتويات روحه، ويلتقط القشور، من أفكاره، فأضاعوا الهوية الليبرالية المصرية الحقيقية بالمحاكاة، والاستعارة والانتحال من تجارب أخرى.
×××××××
هذه الفئة من الليبراليين "المحدثين" لم تترك ليبرالياً، إلا وناوأته حتى نأى، وما واجهت موقفاً ليبرالياً حتى أنكرته، وفرضت قيماً منقولة بغير فهم. وأضرب مثالاً، أنه في عام 2009-2010 دعتني إلى نيويورك جامعات ومراكز أبحاث في زيارة أولى لنيويورك، لم تتم، عندما استعان نظام مبارك بمراكز لصناعة الرأي في أميركا لإفساد الزيارة، ولم تجد هذه المراكز عوناً لها أفضل من شابين، ينتميان للحركة الليبرالية، خرجوا بلا حياء في الإعلام الأميركي، يطالبون بمنع زيارتي بوصفي معادياً للسامية، والدولة اليهودية، والقيم الليبرالية بالمفهوم الذي تعلموه، وبالمخالفة لما جهلوه. وانتهى الأمر بفشل جهدهم، ما أدى إلى إصدار الدولة المصرية قراراً بمنعي من السفر لإلقاء المحاضرات. وكان ألمي الأكبر أن يرفع بعض الشباب الليبرالي مثل هذه اللافتات، عن قصد أو عن جهل، فيشوهون جسداً كبيراً سوياً وسليماً.
الإشكالية الداخلية الثانية هي الخلط بين ما هو ليبرالي وما يمكن أن يقال إنه رأسمالي، وما يمكن أن يقال إنه محافظ، خصوصاً وأن بعضهم يقع، بغير قصد، في هذا الخلط، نتيجة انتهاج سياسات رأسمالية، أو محافظة، في ظل أنظمةٍ، أو مجتمعات ذات ميول ليبرالية. ويتضح هذا الخلط في بريطانيا في عهد مارغريت تاتشر المحافظة، أو في حالة الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس ريغان، حيث اختلط النهج السياسي الخاص بكل منهما ومفهوم الليبرالية. وضاعت الخطوط الفاصلة بين ما هو ليبرالي وما هو محافظ، ما دفع بعضهم إلى الخلط والمغالطات في التقدير والتقييم.
ثالث إشكاليات الليبرالية المصرية أن بعضهم يقضم من الفكر الليبرالي ما يراه، ويتصور أنه هضم الأمر كله. فمن المغالطات الشائعة حصر المفهوم الليبرالي في إطار الجانب الاقتصادي في محاولة لإجهاض المفهوم الشامل للفكر الليبرالي، باعتباره منظومةً من الأفكار التي تعلي شأن الفرد، وتعنى بشكل «رسالي» بحريته في الاختيار، والانتماء، والملكية، والقرار، وحقه في المشاركة في عقد اجتماعي يرتضيه، في ظل مجتمع يوفر ضمانات الحرية بأشكالها الديمقراطية والتوازن الطبيعي في المجتمع.
وآخر إشكالات الليبرالية المصرية اليوم هي تطور الفكر الليبرالي عالمياً، من جانب وخصوصية التركيبة الليبرالية في كل مجتمع، وفقاً للظروف التاريخية للنشأة والتطور الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، ووفقاً لمنظومة متباينةٍ من العوامل التراثية والفكرية والعقائدية، والتي تختلف من مجتمع إلى آخر. فالليبرالية بمفهوم «دعه يعمل دعه يمر» كان طبيعياً أن تتطور، في ظل ما نتج في أثناء الثورة الصناعية في أوروبا من خلل اجتماعي، وسياسي، طور بآلية ذاتية مفهوم الليبرالية، في إطار نضال ليبرالي، لتكريس مفاهيم عديدة، لتحقيق مكاسب إنسانية، واجتماعية، وسياسية جديدة، ولم تكن واضحةً في إطار ما يمكن أن نسميها الليبرالية الأولى، والتي كانت لا تعترف إلا بالفرد، ولا تعترف بأي كيان اجتماعي آخر.
ثم يأتي التطور، في مرحلةٍ لاحقةٍ، ليكون الاعتراف بالكيانات الاجتماعية الأخرى في إطار كونها وسيلةً ليعبر الفرد فيها عن ذاته، ثم يأتي مفهوم الدولة في الفكر الليبرالي. كما أوضح جان لوك، باعتبارها أداة في أيدي الأغلبية، وليس الفرد، لتحقق مصالح هذه الأغلبية، وتحمي حقوقها. وقد جعل هذا التطور المستمر في مفهوم الليبرالية، سياسياً، واقتصادياً، هناك من خطوط التلاقي والتماس بينهما وبين الأفكار التي يمكن وصفها بالوسطية، باعتبارها ترفض ديكتاتورية البروليتاريا والصراع الطبقي والهيمنة الكاملة للدولة، كما أنها تأخذ ببعض جوانب الحريات الفردية.
وأحسب أن الاشكاليات السابقة، في الوصول إلى تعريف لفظي مجرد لمفهوم الليبرالية، لا تعني، بأي حال، استحالة التعريف الدقيق. أو هلامية ملامح الفكر الليبرالي، أو صعوبة الفصل بينه وبين غيره من الأفكار الأخرى، بقدر ما تعني تطور الفكر الليبرالي ومرونته، بصور تتيح لنا تعريفه بشكل تحكمي في إطار مراحله الزمنية المختلفة، وفي إطار الخصوصية المكانية والجغرافية لكل مجتمع. فالليبرالية تحرر الفرد، وتضع بعض القواعد، لتنظيم هذه الحرية، والاشتراكية الديمقراطية تضع قواعد تقيد الفرد، ثم تمنحه بعض الحرية.
××××××××
الخلاصة أن قضيتنا الأساسية ليست فقط فيمن يستوطي حيطان الليبرالية المصرية، ويقف تحت لافتاتها، على الرغم من تصادمه مع قيمها ومبادئها وثوابتها وليست، فقط، في تلك الليبرالية المغشوشة التي يروج لها بعضهم، مثل مروجي السلع المغشوشة والفاسدة. وليست في ممارسات استبدادية، يلبسها بعضهم زوراً ثوباً ليبرالياً. وليست في تلك الأفكار المنقولة بجهل من بعض شبابنا، والتي تسيء إلى الأغلبية السوية.
مشكلتنا الكبرى هي غياب المعايير الواضحة، أو تغييبها، عمداً، لأهداف سلطوية، هي أبعد ما تكون عن رسالتنا التي تؤمن بالإنسان والحرية والتعددية السياسية.