11 مارس 2022
أزمة الهُوِيّة... بين أشو وشنو
صديقي إدلبيّ المولد، رقيّ النشأة، ترك أبوه مدينته الأم منذ عقودٍ، وسكن في مدينة الرقة، ووضعه يشبه وضعي تماماً، وهو يحب المدينتين مثلي، وينطبق عليه ما قلت يوماً:
إني وإن كنتُ رقيَّ الهوى نسباً
فإن مسقطَ قلبي إدلبُ الخضرا
ولكنه كما يقال ما طال بلح الشام ولا عنب اليمن، ولم يتقن لهجتي المدينتين، وكثيراً ما كان يسمع كلمات، لا يعرف معناها ودلالتها، وحافظ على لهجة هجينة ليست إدلبية وليست رقيّة، حتى إذا تكلم أمام شخص ينفي عنه أن يكون إدلبياً أو رقيّاً، فيستغرب لهجته ويظنه من مدن ثانية، شأنه في ذلك شأن كل الذين تركوا مدنهم الأصلية، وسكنوا في الرقة، وبشكل خاص في مدينة الطبقة "الثورة" حيث يجتمع فيها أناس من بقاع الوطن، وكل منهم ذابت لهجته الأصلية، لتحل محلها لهجة هجينة مفهومة، وكان يلمس ذلك، من خلال طلابه الذين درّسهم ذات يوم.
لم يستطع صديقي أن يتحدث ويتقن لهجة المدينة التي سكنها منذ عشرات السنين، فأحياناً لا يفهم بعض الكلمات كما قال له أحدهم مرةً: (يا خي شبيك مخنشر). فلم يفهم قصده، وسأله: مخنشر!
ليعرف بعد ذلك دلالتها، من أحد أصدقائه الأدباء الذين يبحثون في اللهجة وتأصيلها، وأعلمَه أن هذه الكلمة أتت من كلمة الخنجر المعقوف، وفلان مخنجر: أي أخذ وضعية الخنجر المعقوف، وأبدلت الجيم شيناً.
تعرّض صديقي لمواقفَ كثيرة، بسبب عدم إتقانه للهجة، كأن يقول له شخص: يا أخي من باب العرفان لهذه المدينة يجب أن تتقن لهجتها، وأنت تُنسَبُ إليها، لأنك من دون إتقانها لن تكون منها، حسب نظريات نشوء القوميات، وإيلاء اللغات واللهجات أهميةً في ذلك.
أو أن يمازحه زميل بعد سماع لهجته، ويضحك: كل واحد يعوج لسانه أفقه ضيق! فعليك أن توسّع أفقك، وتتقن كلامنا.. ههه.
وليت الأمر اقتصر على عدم معرفة اللهجة، بل تعداه إلى أمور أخرى. فبعض الناس في المدينة التي يعيش فيها ينظر إليه على أنه غريب، إن لم يستخدم كلمة ثانية، مع أن المدينة ترحب دائماً بالغريب، وعُرفتْ بأنها أمّ الغريب، وحتى عند زيارته بلده الأصلي، يرى بعضهم يشرئب بعنقه، ويسأل جيرانه عن هذا الغريب الذي يتجوّل في البلد، وكثيراً ما يقول لهم: إنني من هذا البلد، وجدي فلان الفلاني، وكانت له دار في الحارة الفلانية، وكان له كرم زيتون أيضاً، ولكنهم يبقون على نظرة التوجس والحذر التي يُنظر فيها عادة للغريب.
وتنسحب صعوبة اللهجة أيضاً على حديثه مع أهل مدينته إدلب، فهناك كلمات كثيرة لا يستخدمها، ولا يعرف معناها مثل كلمة (شاحوطة) التي سمعها من أحد النازحين للرقة بعد الثورة، جاء إلى بيتهم ليستعير الشاحوطة وما أدراك ما الشاحوطة؟
تفاجأ صديقي بهذه الكلمة، فقال له النازح وكان طاعناً في السن: "أشو يا عين عمك ما بتعرف الشاحوطة"، ليعرف منه بعد لأي أنها أداة لحفر الباذنجان والكوسا، من أجل المحشي، وليقرأ عنها بأنها قدوم للحفر، يستخدمه النحات في عمله.
صديقي يعاني اليوم مثلي من أزمة هُويّة بين اسمي استفهام: (أشو وشنو) وفي ظل تكاثر قواميس اللهجات لكل المدن السورية، فقد دُعي كما دُعيتُ أنا لقاموسين لا نتقنهما: قاموس الشوايا، وكلمات إدلبية قديمة.
ولسان حالنا يقول: بالله عليكم أرشدونا، فقد ضللْنا سبيل اللهجات. هل ننضم إلى أحدهما، أم ننتظر قاموساً جامعاً يضم كل الضالين والمنسلخين من لهجاتهم المحدودة والضيقة.
إني وإن كنتُ رقيَّ الهوى نسباً
فإن مسقطَ قلبي إدلبُ الخضرا
ولكنه كما يقال ما طال بلح الشام ولا عنب اليمن، ولم يتقن لهجتي المدينتين، وكثيراً ما كان يسمع كلمات، لا يعرف معناها ودلالتها، وحافظ على لهجة هجينة ليست إدلبية وليست رقيّة، حتى إذا تكلم أمام شخص ينفي عنه أن يكون إدلبياً أو رقيّاً، فيستغرب لهجته ويظنه من مدن ثانية، شأنه في ذلك شأن كل الذين تركوا مدنهم الأصلية، وسكنوا في الرقة، وبشكل خاص في مدينة الطبقة "الثورة" حيث يجتمع فيها أناس من بقاع الوطن، وكل منهم ذابت لهجته الأصلية، لتحل محلها لهجة هجينة مفهومة، وكان يلمس ذلك، من خلال طلابه الذين درّسهم ذات يوم.
لم يستطع صديقي أن يتحدث ويتقن لهجة المدينة التي سكنها منذ عشرات السنين، فأحياناً لا يفهم بعض الكلمات كما قال له أحدهم مرةً: (يا خي شبيك مخنشر). فلم يفهم قصده، وسأله: مخنشر!
ليعرف بعد ذلك دلالتها، من أحد أصدقائه الأدباء الذين يبحثون في اللهجة وتأصيلها، وأعلمَه أن هذه الكلمة أتت من كلمة الخنجر المعقوف، وفلان مخنجر: أي أخذ وضعية الخنجر المعقوف، وأبدلت الجيم شيناً.
تعرّض صديقي لمواقفَ كثيرة، بسبب عدم إتقانه للهجة، كأن يقول له شخص: يا أخي من باب العرفان لهذه المدينة يجب أن تتقن لهجتها، وأنت تُنسَبُ إليها، لأنك من دون إتقانها لن تكون منها، حسب نظريات نشوء القوميات، وإيلاء اللغات واللهجات أهميةً في ذلك.
أو أن يمازحه زميل بعد سماع لهجته، ويضحك: كل واحد يعوج لسانه أفقه ضيق! فعليك أن توسّع أفقك، وتتقن كلامنا.. ههه.
وليت الأمر اقتصر على عدم معرفة اللهجة، بل تعداه إلى أمور أخرى. فبعض الناس في المدينة التي يعيش فيها ينظر إليه على أنه غريب، إن لم يستخدم كلمة ثانية، مع أن المدينة ترحب دائماً بالغريب، وعُرفتْ بأنها أمّ الغريب، وحتى عند زيارته بلده الأصلي، يرى بعضهم يشرئب بعنقه، ويسأل جيرانه عن هذا الغريب الذي يتجوّل في البلد، وكثيراً ما يقول لهم: إنني من هذا البلد، وجدي فلان الفلاني، وكانت له دار في الحارة الفلانية، وكان له كرم زيتون أيضاً، ولكنهم يبقون على نظرة التوجس والحذر التي يُنظر فيها عادة للغريب.
وتنسحب صعوبة اللهجة أيضاً على حديثه مع أهل مدينته إدلب، فهناك كلمات كثيرة لا يستخدمها، ولا يعرف معناها مثل كلمة (شاحوطة) التي سمعها من أحد النازحين للرقة بعد الثورة، جاء إلى بيتهم ليستعير الشاحوطة وما أدراك ما الشاحوطة؟
تفاجأ صديقي بهذه الكلمة، فقال له النازح وكان طاعناً في السن: "أشو يا عين عمك ما بتعرف الشاحوطة"، ليعرف منه بعد لأي أنها أداة لحفر الباذنجان والكوسا، من أجل المحشي، وليقرأ عنها بأنها قدوم للحفر، يستخدمه النحات في عمله.
صديقي يعاني اليوم مثلي من أزمة هُويّة بين اسمي استفهام: (أشو وشنو) وفي ظل تكاثر قواميس اللهجات لكل المدن السورية، فقد دُعي كما دُعيتُ أنا لقاموسين لا نتقنهما: قاموس الشوايا، وكلمات إدلبية قديمة.
ولسان حالنا يقول: بالله عليكم أرشدونا، فقد ضللْنا سبيل اللهجات. هل ننضم إلى أحدهما، أم ننتظر قاموساً جامعاً يضم كل الضالين والمنسلخين من لهجاتهم المحدودة والضيقة.