24 أكتوبر 2024
أزمة نظام سياسي في تونس
كشفت محاولات تشكيل حكومة جديدة في تونس تدير البلاد، إثر انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2019، عن عمق الأزمة التي يتخبط فيها النظام السياسي التونسي الناشئ، وحالة فوضى الصلاحيات، وسوء توزيع مواقع السلطة في البلاد، وطبيعة العلاقة المتأزمة بينها.
الأكيد أن حكومة إلياس الفخفاخ ستنال مصادقة مجلس النواب، إلا أن هذا لن يحجب الأزمة الهيكلية التي يعيشها النظام السياسي التونسي، فمنذ ظهور نتائج الانتخابات التشريعية، وتشكل المجلس النيابي الجديد، كان واضحا أن البلاد ستعرف سنوات خمسا من الأزمات المتتالية، فالمشرّع الذي وضع القانون الانتخابي لم يضع في الحساب حالة التشظي الحزبي، وما يؤدي إليه قانونٌ يعتمد نظام أكبر البقايا، ولا يمنح المقاعد وفق نظام الأغلبية، بما يسمح بوجود أحزاب في الحكم وأخرى في المعارضة. عجزت الأحزاب السياسية بحضورها المتقارب في المجلس النيابي عن إيجاد صيغة تمكّنها من إدارة المرحلة، وفي ظل غياب الفرز على أساس البرامج (غالبية الأحزاب ترفع شعارات ولا تقدم برامج فعلية)، أو التحالف على أساس المفاصلة المعهودة بين يمين ويسار، وجد الشارع التونسي نفسه أمام مجلسٍ عاجز عن إدارة نفسه، وغير قادر على إدارة البلاد في ظل نظام برلماني معدّل، أو هكذا يبدو حسب ما يدل عليه الدستور.
تراكمت المشكلات السياسية في تونس، وعلى الرغم من مرور ثلاث سنوات على التأسيس وكتابة الدستور، وخمس سنوات بعدها لتركيز المؤسسات، فقد عجزت النخبة السياسية عن التوافق على تشكيل المحكمة الدستورية التي كانت ضروريةً من أجل منع حالة السيولة التي رافقت المرحلة الحالية في تأويل النص الدستوري، ففي حالة التجاذب بين رئيسي البرلمان والجمهورية كان الغائب الأساسي هو القضاء الدستوري الذي كان قادرا على حسم النزاع، وتقديم تفسير ملزم لكل الأطراف، فرئيس الجمهورية الذي يحاول التمدد خارج صلاحياته، وهو الذي يدرك أن حضوره في وضع سياسات الدولة وتسييرها يظل محدودا، وجد الفرصة سانحةً مع رفض المجلس المصادقة على حكومة الحبيب الجملي، ليقترح إلياس الفخفاخ رئيسا للحكومة الجديدة، مع أن هذا الرجل، وهو وزير سابق، لم يكن الأقدر، باعتباره ينتمي إلى حزب فشل في دخول البرلمان، ولا الأكثر كفاءة، حيث لم تظهر عليه قدرات مميزة في العمل الوزاري زمن مشاركته في حكومة الترويكا، إلا أن خلفية اختياره، حسب ما يظهر، اعتقاد من جاء به أنه سيظل تابعا مخلصا، ولا يتحول إلى صاحب قرار مستقل في ظل الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها دستوريا.
كانت تطورات العلاقة بين رئيس الحكومة المنصرفة، يوسف الشاهد، والرئيس الراحل، الباجي
قائد السبسي، جرس إنذار للحالة التي قد تصل إليها البلاد، في حالة الصراع بين الرئاسات الثلاث، حيث بقيت تونس، في السنوات الماضية، رهينة الطموح المحموم لرئيس الحكومة، وحالة فوضى القرارات التي أحاطت برئيس الجمهورية، وهو ما يبدو أنه سيتكرر في المرحلة المقبلة، ولكن بصيغة أخرى من حيث التجاذب بين رئيسي مجلس النواب والجمهورية. وفي غياب المحكمة الدستورية التي أصبحت مطلبا عاجلا وملحا في المرحلة الحالية، ستتواصل الأزمات الدستورية، خصوصا في غياب الخبرة السياسية والإدارية لرئيس الجمهورية، المفتون بنسبة الأصوات التي حصل عليها في ظروف معينة. وعلى الرغم من أن موقعه يفرض عليه أن يكون ذا دور تجميعي بين القوى المختلفة، فإن تحوله إلى طرف في النزاعات السياسية قد يمنع البلاد من التقدّم في تطوير نظامها السياسي، وتثبيت انتقالها الديمقراطي.
كشفت الأزمة السياسية أخيرا (وهي واحدة من أزمات كثيرة ومتتالية) عن حالة من المغالبة بين الأطراف المختلفة في المشهد السياسي التونسي، فالحكومة التي كان مفترضا أن تكون مصغّرة، وأن تقوم على التقشف في المصاريف الرسمية والإدارية، خضعت في النهاية (بحسب القائمة التي أعلن عنها المكلّف إلياس الفخفاخ) إلى سلسلة من الترضيات، شملت الأحزاب ورئاسة الجمهورية والمنظمات الكبرى (اتحاد الشغل واتحاد الأعراف)، وجاءت مثقلة بـ 29 وزيرا من دون احتساب كتّاب الدولة، وهي حكومة تصدير للأزمة، وليست حلا لها، في ظل عدم تجانسها وغياب الوضوح في برامجها، وهو ما يطرح أسئلةً كثيرة عن مصيرها، أعني هل هي حكومة لخمس سنوات مقبلة، أم أنها قد تسقط قبل انقضاء المدّة.
تقتضي المرحلة القيام بإصلاحاتٍ في المنظومة القانونية التي تتحكّم في النظام السياسي التونسي، بما فيه من قوانين انتخابية وآليات دستورية، غير أن المشكلة تكمن في أن الجهاز المنوطة به مثل هذه الإصلاحات، وهو البرلمان، يبدو عاجزا تماما عن إصلاح ذاته وتطوير التشريعات التي تساهم في حل الأزمة، فكأنما نحن في دور أو حلقة مفرغة، أي أن إصلاح القانون يتطلب إصلاحا للمجلس الذي يشرّعه، وهو ما يوحي باستمرار الأزمة في الأفق المنظور على الأقل.
تراكمت المشكلات السياسية في تونس، وعلى الرغم من مرور ثلاث سنوات على التأسيس وكتابة الدستور، وخمس سنوات بعدها لتركيز المؤسسات، فقد عجزت النخبة السياسية عن التوافق على تشكيل المحكمة الدستورية التي كانت ضروريةً من أجل منع حالة السيولة التي رافقت المرحلة الحالية في تأويل النص الدستوري، ففي حالة التجاذب بين رئيسي البرلمان والجمهورية كان الغائب الأساسي هو القضاء الدستوري الذي كان قادرا على حسم النزاع، وتقديم تفسير ملزم لكل الأطراف، فرئيس الجمهورية الذي يحاول التمدد خارج صلاحياته، وهو الذي يدرك أن حضوره في وضع سياسات الدولة وتسييرها يظل محدودا، وجد الفرصة سانحةً مع رفض المجلس المصادقة على حكومة الحبيب الجملي، ليقترح إلياس الفخفاخ رئيسا للحكومة الجديدة، مع أن هذا الرجل، وهو وزير سابق، لم يكن الأقدر، باعتباره ينتمي إلى حزب فشل في دخول البرلمان، ولا الأكثر كفاءة، حيث لم تظهر عليه قدرات مميزة في العمل الوزاري زمن مشاركته في حكومة الترويكا، إلا أن خلفية اختياره، حسب ما يظهر، اعتقاد من جاء به أنه سيظل تابعا مخلصا، ولا يتحول إلى صاحب قرار مستقل في ظل الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها دستوريا.
كانت تطورات العلاقة بين رئيس الحكومة المنصرفة، يوسف الشاهد، والرئيس الراحل، الباجي
كشفت الأزمة السياسية أخيرا (وهي واحدة من أزمات كثيرة ومتتالية) عن حالة من المغالبة بين الأطراف المختلفة في المشهد السياسي التونسي، فالحكومة التي كان مفترضا أن تكون مصغّرة، وأن تقوم على التقشف في المصاريف الرسمية والإدارية، خضعت في النهاية (بحسب القائمة التي أعلن عنها المكلّف إلياس الفخفاخ) إلى سلسلة من الترضيات، شملت الأحزاب ورئاسة الجمهورية والمنظمات الكبرى (اتحاد الشغل واتحاد الأعراف)، وجاءت مثقلة بـ 29 وزيرا من دون احتساب كتّاب الدولة، وهي حكومة تصدير للأزمة، وليست حلا لها، في ظل عدم تجانسها وغياب الوضوح في برامجها، وهو ما يطرح أسئلةً كثيرة عن مصيرها، أعني هل هي حكومة لخمس سنوات مقبلة، أم أنها قد تسقط قبل انقضاء المدّة.
تقتضي المرحلة القيام بإصلاحاتٍ في المنظومة القانونية التي تتحكّم في النظام السياسي التونسي، بما فيه من قوانين انتخابية وآليات دستورية، غير أن المشكلة تكمن في أن الجهاز المنوطة به مثل هذه الإصلاحات، وهو البرلمان، يبدو عاجزا تماما عن إصلاح ذاته وتطوير التشريعات التي تساهم في حل الأزمة، فكأنما نحن في دور أو حلقة مفرغة، أي أن إصلاح القانون يتطلب إصلاحا للمجلس الذي يشرّعه، وهو ما يوحي باستمرار الأزمة في الأفق المنظور على الأقل.