أنشئت البنوك المركزية لتقوم بمهام أساسية، مثل إدارة الاحتياطات، وإصدار النقد، وتحديد سياسة الفوائد، وتقديم الاستشارات للحكومات، والعمل وكيلاً مالياً للحكومة، والتي تؤدي دورها العملي في صنع السياسة الاقتصادية عامة، والنقدية خصوصاً. ومنذ ذلك الحين، وهي تتقلّب بين السعي نحو الاستقلالية والتفاعل مع الاقتصاد الكلي في بلدانها.
وبعد تخفيض الدولار مرتين، في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وتزامن ذلك مع ارتفاع أسعار النفط، في مطلع عام 1974، أصيب العالم بنوبة حادة من التضخم. ولأول مرة لم ينجح التضخم، ولا التراجع في سعر الدولار ودوره احتياطياً أساسياً لدولٍ كثيرة، في تقليل نسب البطالة، بل على العكس زادها ارتفاعاً.
وفي عام 1979، عُقدت اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في بودابست، وفوجئ الحضور يومها بعودة رئيس مجلس إدارة البنك الاحتياطي الأميركي، بول فولكر، إلى واشنطن قبل بدء الاجتماعات.
وأجرى فولكر، فور عودته، اجتماعاتٍ مع لجنة عملية السوق المفتوح، وقرّر أن السياسة النقدية المطلوبة تتطلب تدخلاً مباشراً وعدوانياً بطريقة مختلفة عما كانت عليه الأمور سابقاً.
وبالفعل، نجحت تلك السياسة في الثمانينيات في التخفيف من حدّة التضخم، ولكن على حساب الارتفاع في البطالة.
اقــرأ أيضاً
وقد اتبعت بنوك مركزية في الدول الغربية سياسات مشابهة. ففي هذه الفترة، هيمنت أفكار الاقتصادي الأميركي ميلتون فريدمان ومدرسة جامعة شيكاغو الاقتصادية في تعزيز استقلالية البنوك المركزية والسياسات الحكومية.
بل وأعطيت البنوك المركزية، في ذلك الحين، دوراً أكبر لتتدخل في السياسات المالية، ووضع أسس للمديونية وسقوفها، وفي تعزيز عمليات السوق المفتوح، وفي ضبط سياسة سعر الفائدة المركزي، وأسعار الفوائد المختلفة على القروض طويلة الأجل وقصيرته.
وقد نشرت مجلة "إيكونوميست" عام 1999 مقالاً اعتبرت فيه أن البنوك المركزية قد حققت مكاسب معنوية كبيرة، واستعادت ثقتها بقدرتها على التحكّم في التضخم.
واستمر العالم حتى ذلك الحين في النمو بمعدلات مقنعة، من دون ارتفاع في الأسعار، وسجلت الأرقام القياسية لتكاليف المعيشة ارتفاعات لا تتجاوز 4 في المائة في الدول الأغنى.
لكن هذا حدث بالطبع بسبب استعادة الدول الغنية تفوّقها في شروط التبادل التجاري، والتي تمثلت في إنشاء منظمة التجارة العالمية، وتحديد شروط عضويتها، بما يكفل للدول الغنية شروط تبادل تجاري أفضل على حساب الدول الأفقر.
اقــرأ أيضاً
وقد عزّز هذا التحول أمران: الأول، انفجار أزمة المديونية العالمية في الثمانينيات والتسعينيات في الدول النامية، وخضوعها لشروط الدول الغنية وصندوق النقد الدولي في ضمان سداد المديونية. والثاني، هبوط أسعار النفط وكثير من أسعار المواد الخام المصدّرة من الدول الفقيرة إلى الدول الأغنى.
لكن أسعار الفوائد التي يحدّدها البنك المركزي في الدول الكبرى، أو ما يسمّى سعر الفائدة على الديون قصيرة الأجل (ليلة واحدة أو ليلتان)، والذي بموجبه تتحدّد جداول أسعار الفائدة على القروض والودائع بكل أنواعها، قد وصلت إلى حدود دنيا، ففي نهاية عام 2018 كان سعر الفائدة هذا 2.5 في المائة في البنك الاحتياطي الأميركي، و0.75 في المائة في بنك إنكلترا، و1.75 في المائة في بنك كندا المركزي، وصفر في المائة في البنك المركزي الأوروبي، وسالب 0.10 في المائة في البنك المركزي الياباني.
ويبدو أن هذه البنوك المركزية، باستثناء البنك الاحتياطي الأميركي، لن ترفع سعر الفائدة هذا خلال 2019.
ولكن بعد مرور أربعة عقود (منذ 1979) على بداية تعزيز استقلالية البنوك المركزية، وتحكّمها في السياسات، كيف جاءت النتائج؟
البنوك المركزية العالمية فشلت في إدارة أزمة عام 2008 المالية، فانخفاض أسعار الفوائد إلى درجة متدنية يغري بالإنفاق على الاستثمار والاستهلاك، وعلى المضاربة إلى حد المقامرة.
لذلك رأينا الناس أصحاب الفوائض المالية الكبيرة يبحثون عن استثمارات بدلاً من إيداعها لدى البنوك بفوائد تقارب الصفر أو أدنى من ذلك.
ولهذا تخلت البنوك التجارية عن حذرها، وقدّمت القروض جزافاً للمستهلكين والحكومات، وأحدثت وسائل مضاربة مثل "سندات الجَنْك" Junk bonds، و"المشتقات المالية". ولمّا انفجرت تلك الفقاعة الكبيرة، وقعت معظم الدول في العالم في أزمة.
اليوم، تواجه معظم الدول النامية أزمة مديونية كبيرة، تجعلها تقبل بأن تدفع فوائد كبيرة متزايدة على قروضها.
وفي الوقت الذي يحدّد فيه البنك المركزي الأميركي الفوائد على قروضه قصيرة الأجل (2.5 في المائة)، فإن سعر الفائدة الفعلي على اقتراض الدول النامية من سوق اليورو قد يصل إلى أكثر من 7 في المائة.
وإذا خفضت مؤسسات التقييم الدولية، مثل "فيتش" أو "موديز"، تقييم دولةٍ ما، فإن سعر الفائدة على قروضها يرتفع فوراً.
في ظل هذه الظروف، بدأت البنوك المركزية في دول كثيرة، سواء الدول ذات الديون الكبيرة، أو صاحبة الفوائد الاحتياطية، بفقدان قدرتها على ممارسة سياسات مستقلة داخل دولها، لكنها في الوقت نفسه تطالب سلطاتها الحكومية بمنحها مزيداً من الاستقلالية.
ويضع هذا الوضع العبء الأكبر من السياسات التصحيحية داخل هذه الدول على كتف السياسة المالية الحكومية، وتبقى السياسة النقدية تلعب دوراً محايداً.
اقــرأ أيضاً
لذلك يجب أن يُعاد النظر في مفهوم استقلالية البنوك المركزية إلا في أمر واحد، وهو السماح للحكومات بإصدار مزيد من النقد من دون وجود احتياطي يبرّر ذلك.
أما القول إن البنوك المركزية في الدول النامية، خصوصاً في الوطن العربي، هي ليست شركات، وأن كل ما لديها هو ملك للخزينة العامة، يبقى ضرباً من المبالغة.
وسوف تبقى هذه الدول، خصوصا الدائنة منها، تحت رحمة البنوك المركزية التي تمثل صندوق النقد الدولي أكثر مما تمتثل لحاجات بلدانها، والسماح لها بالنمو لمواجهة البطالة والفقر.
وبعد تخفيض الدولار مرتين، في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وتزامن ذلك مع ارتفاع أسعار النفط، في مطلع عام 1974، أصيب العالم بنوبة حادة من التضخم. ولأول مرة لم ينجح التضخم، ولا التراجع في سعر الدولار ودوره احتياطياً أساسياً لدولٍ كثيرة، في تقليل نسب البطالة، بل على العكس زادها ارتفاعاً.
وفي عام 1979، عُقدت اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في بودابست، وفوجئ الحضور يومها بعودة رئيس مجلس إدارة البنك الاحتياطي الأميركي، بول فولكر، إلى واشنطن قبل بدء الاجتماعات.
وأجرى فولكر، فور عودته، اجتماعاتٍ مع لجنة عملية السوق المفتوح، وقرّر أن السياسة النقدية المطلوبة تتطلب تدخلاً مباشراً وعدوانياً بطريقة مختلفة عما كانت عليه الأمور سابقاً.
وبالفعل، نجحت تلك السياسة في الثمانينيات في التخفيف من حدّة التضخم، ولكن على حساب الارتفاع في البطالة.
وقد اتبعت بنوك مركزية في الدول الغربية سياسات مشابهة. ففي هذه الفترة، هيمنت أفكار الاقتصادي الأميركي ميلتون فريدمان ومدرسة جامعة شيكاغو الاقتصادية في تعزيز استقلالية البنوك المركزية والسياسات الحكومية.
بل وأعطيت البنوك المركزية، في ذلك الحين، دوراً أكبر لتتدخل في السياسات المالية، ووضع أسس للمديونية وسقوفها، وفي تعزيز عمليات السوق المفتوح، وفي ضبط سياسة سعر الفائدة المركزي، وأسعار الفوائد المختلفة على القروض طويلة الأجل وقصيرته.
وقد نشرت مجلة "إيكونوميست" عام 1999 مقالاً اعتبرت فيه أن البنوك المركزية قد حققت مكاسب معنوية كبيرة، واستعادت ثقتها بقدرتها على التحكّم في التضخم.
واستمر العالم حتى ذلك الحين في النمو بمعدلات مقنعة، من دون ارتفاع في الأسعار، وسجلت الأرقام القياسية لتكاليف المعيشة ارتفاعات لا تتجاوز 4 في المائة في الدول الأغنى.
لكن هذا حدث بالطبع بسبب استعادة الدول الغنية تفوّقها في شروط التبادل التجاري، والتي تمثلت في إنشاء منظمة التجارة العالمية، وتحديد شروط عضويتها، بما يكفل للدول الغنية شروط تبادل تجاري أفضل على حساب الدول الأفقر.
وقد عزّز هذا التحول أمران: الأول، انفجار أزمة المديونية العالمية في الثمانينيات والتسعينيات في الدول النامية، وخضوعها لشروط الدول الغنية وصندوق النقد الدولي في ضمان سداد المديونية. والثاني، هبوط أسعار النفط وكثير من أسعار المواد الخام المصدّرة من الدول الفقيرة إلى الدول الأغنى.
لكن أسعار الفوائد التي يحدّدها البنك المركزي في الدول الكبرى، أو ما يسمّى سعر الفائدة على الديون قصيرة الأجل (ليلة واحدة أو ليلتان)، والذي بموجبه تتحدّد جداول أسعار الفائدة على القروض والودائع بكل أنواعها، قد وصلت إلى حدود دنيا، ففي نهاية عام 2018 كان سعر الفائدة هذا 2.5 في المائة في البنك الاحتياطي الأميركي، و0.75 في المائة في بنك إنكلترا، و1.75 في المائة في بنك كندا المركزي، وصفر في المائة في البنك المركزي الأوروبي، وسالب 0.10 في المائة في البنك المركزي الياباني.
ويبدو أن هذه البنوك المركزية، باستثناء البنك الاحتياطي الأميركي، لن ترفع سعر الفائدة هذا خلال 2019.
ولكن بعد مرور أربعة عقود (منذ 1979) على بداية تعزيز استقلالية البنوك المركزية، وتحكّمها في السياسات، كيف جاءت النتائج؟
البنوك المركزية العالمية فشلت في إدارة أزمة عام 2008 المالية، فانخفاض أسعار الفوائد إلى درجة متدنية يغري بالإنفاق على الاستثمار والاستهلاك، وعلى المضاربة إلى حد المقامرة.
لذلك رأينا الناس أصحاب الفوائض المالية الكبيرة يبحثون عن استثمارات بدلاً من إيداعها لدى البنوك بفوائد تقارب الصفر أو أدنى من ذلك.
ولهذا تخلت البنوك التجارية عن حذرها، وقدّمت القروض جزافاً للمستهلكين والحكومات، وأحدثت وسائل مضاربة مثل "سندات الجَنْك" Junk bonds، و"المشتقات المالية". ولمّا انفجرت تلك الفقاعة الكبيرة، وقعت معظم الدول في العالم في أزمة.
اليوم، تواجه معظم الدول النامية أزمة مديونية كبيرة، تجعلها تقبل بأن تدفع فوائد كبيرة متزايدة على قروضها.
وفي الوقت الذي يحدّد فيه البنك المركزي الأميركي الفوائد على قروضه قصيرة الأجل (2.5 في المائة)، فإن سعر الفائدة الفعلي على اقتراض الدول النامية من سوق اليورو قد يصل إلى أكثر من 7 في المائة.
وإذا خفضت مؤسسات التقييم الدولية، مثل "فيتش" أو "موديز"، تقييم دولةٍ ما، فإن سعر الفائدة على قروضها يرتفع فوراً.
في ظل هذه الظروف، بدأت البنوك المركزية في دول كثيرة، سواء الدول ذات الديون الكبيرة، أو صاحبة الفوائد الاحتياطية، بفقدان قدرتها على ممارسة سياسات مستقلة داخل دولها، لكنها في الوقت نفسه تطالب سلطاتها الحكومية بمنحها مزيداً من الاستقلالية.
ويضع هذا الوضع العبء الأكبر من السياسات التصحيحية داخل هذه الدول على كتف السياسة المالية الحكومية، وتبقى السياسة النقدية تلعب دوراً محايداً.
لذلك يجب أن يُعاد النظر في مفهوم استقلالية البنوك المركزية إلا في أمر واحد، وهو السماح للحكومات بإصدار مزيد من النقد من دون وجود احتياطي يبرّر ذلك.
أما القول إن البنوك المركزية في الدول النامية، خصوصاً في الوطن العربي، هي ليست شركات، وأن كل ما لديها هو ملك للخزينة العامة، يبقى ضرباً من المبالغة.
وسوف تبقى هذه الدول، خصوصا الدائنة منها، تحت رحمة البنوك المركزية التي تمثل صندوق النقد الدولي أكثر مما تمتثل لحاجات بلدانها، والسماح لها بالنمو لمواجهة البطالة والفقر.