27 سبتمبر 2019
أطفال النعمة السوريون
الزمن في سورية لا يداوي الجراح، بل يصنعها ويبتكرها يوما بعد يوم، وأكبر عنوان للألم السوري المُتجدد هم أطفال سورية، من يتأمل وجوههم في مخيمات اللجوء البائسة، أو وجوههم وعدسة الكاميرا تلاحقهم، لإعداد برامج عنهم، وهم مادةٌ خصبةٌ للربح، يُصاب بالذهول، إذ على الرغم من هول معاناة هؤلاء الأطفال، فإنهم لا يزالون قادرين على الابتسام وعلى اللعب، وعلى التحدّث عن طفولتهم التي سُرقت منهم، وحل مكانها إحساسٌ دائمٌ بالخوف والذعر. من يتأمل وجوههم بعمق يدرك أنهم أطفال نعمة، كانوا يعيشون تحت سقف، ويلعبون مع رفاقهم في حديقةٍ لم تُحرق أشجارها، ولم تتحول إلى سور من الحواجز، أو كانوا يلعبون في باحة مدرسةٍ، وهم باللباس المدرسي الأنيق النظيف، وفي حقيبتهم المدرسية كتب ودفاتر وقصائد فرح وسندويشات شهية.
من يتأمل وجوه أطفال سورية النازحين المُروعين من هول الإجرام يرى ما لا يُرى، يرى أبعد من الواقع المُخزي الوحشي، يرى طفولةً منطويةً على ذاتها، مختبئة في دهاليز الروح العميقة، تقتات على ذكرياتٍ رائعةٍ، قُصفت بومضة عين. تشعر أن هؤلاء الأطفال يتذكّرون طفولتهم الآمنة كل لحظة، ينطوون على ذاتهم، ويهربون من الواقع الذليل المهين، باستعادة ملامح من طفولةٍ آمنةٍ عاشوها ذات يوم، وصارت بعيدةً عنهم، وكأن دهرا فصلهم عنها، لكنهم لا يزالون يحتفظون بأناقة أرواحهم الطاهرة، وفرح الطفولة الخام النقي.. لا يزالون، على الرغم من الألم الشديد الذي يفوق قدرتهم على الاستيعاب (من حسن حظهم) قادرين على أن يعبروا من عتبة الألم إلى عتبة الحلم، إلى عالمٍ سعيدٍ آمنٍ، عرفوه يوما، حين كانوا لا يزالون يعيشون تحت سقفٍ، ويستحمون بماء ساخن، ويأكلون طعاما لذيذا، ويحلمون بمستقبل ومهنة وموهبة.
تلك الذكريات الأشبه بالوشم لا تزال محفورةً في ذاكرة أطفال سورية، تُقوّيهم، وتمدّهم بقوةٍ
سحريةٍ على تحمل ما لا يُحتمل ولا يُطاق. لا يحتاجون دعما من الكبار. إنهم يستخفون بكل من يُعدّ عنهم دراساتٍ وبرامج، ومن يتفاصح لتقديم خطط لدعمهم نفسيا، وتخفيف الآثار الرهيبة للمجازر التي شهدوها!
يحتمي أطفال سورية بمخزون ذاكرتهم من موسيقى، وقراءةٍ ولعبٍ وحلم، ليهربوا من وحشية الواقع والبشر، يستنهضون قوةً مُذهلةً من أرواحهم النقية نقاء نور فجرٍ يبدّد ظلمات كثيفة، يرفعون نظرهم إلى السماء، ويتجاهلون سرب الطائرات التي تقصف، وترمي براميل مُتفجرة، ولا يرون إلا سرب عصافير تزقزق فرحا بالحياة. يتظاهرون بأنهم يحتمون بخيمةٍ، لكن مسكنهم الحقيقي طفولة بكامل بهائها وقوتها، لا تزال في قلوبهم الممتلئة بحب الحياة. القوة الحقيقية هي السعادة.
من يحدّق بدقةٍ في وجوه أطفال سورية يستكشف روحهم الحقيقية، صامدة قوية وأنيقة، تشع من وجوههم نعمة وأملا بالحياة. لستُ واهمة ولا أكتب إنشاءً. ولكن أعترف بكل نزاهة أنه لطالما أذهلتني وجوه أطفال سورية في مُخيمات النزوح، أو وجوههم والعدسة تصورهم كيف يحملون أكياسا وبقايا ألعاب، ويسيرون في طرقاتٍ وعرة تحت القصف، ووسط الجثث وأشلاء بشر. .. كيف لا يزالون يملكون القدرة على الوقوف والمشي، وعلى التحديق في الكاميرا والابتسام، ابتسامة من يتجاوز الكارثة، من يترفع عنها ويحتقرها، ولا يعترف بوجودها. لا يُنسى مشهد طفلة في الثالثة من عمرها تسير خلف والدتها وإخوتها، يذرعون الآفاق سُدى، آملين الوصول إلى مكانٍ لا رصاص فيه، ولا دبابات، ولا براميل مُتفجرة. توقفت تلك الطفلة لحظاتٍ، لتُحكم وضع ربطة شعرها، بعد أن سرحته بأصابعها البضّة. لعلها كانت تتخيل مرآتها الصغيرة في بيتها الآمن، قبل أن ينهار سقفه على من فيه. طفلة في الثالثة من عمرها تملك القوة، لتمشي في طريق الحياة الوعرة، بعد أن شهدت المجازر. لا أنسى هبة الطفلة ذات السنوات العشر، والتي حكت لي كيف شاهدت الصاروخ يهدم بيت جيرانهم في حلب. دمعت عيناها، وهي تصف القطة الجميلة التي كانت تعيش معها في بيت آمن، هبة التي نزحت إلى اللاذقية، وعاشت مع أسرتها في خيمةٍ بائسةٍ، لكنها تقرأ طوال الوقت، وتحلم أن تصير طبيبة.
ترى في وجوه أطفال سورية، خصوصا من في مخيمات النزوح ما لا يُرى، ترى النعمة وأناقة روحٍ طفوليةٍ لم تتشظّ بالرصاص والأحقاد. تدرك أي قوةٍ هي الابتسامة، الابتسامة التي تعني رغبتهم في البقاء على قيد الحياة، وعيش حياة كريمة تليق بهم، واستعادة طفولةٍ ينتهكها العالم أجمع.
أطفال سورية، أطفال النعمة، يفضحون، بوجوههم السمحة الجميلة، انحطاط العالم الأخلاقي، ويؤكدون أن السياسة وعمل رجال العصابات شيء واحد، أو وجهان لعملة واحدة.)
من يتأمل وجوه أطفال سورية النازحين المُروعين من هول الإجرام يرى ما لا يُرى، يرى أبعد من الواقع المُخزي الوحشي، يرى طفولةً منطويةً على ذاتها، مختبئة في دهاليز الروح العميقة، تقتات على ذكرياتٍ رائعةٍ، قُصفت بومضة عين. تشعر أن هؤلاء الأطفال يتذكّرون طفولتهم الآمنة كل لحظة، ينطوون على ذاتهم، ويهربون من الواقع الذليل المهين، باستعادة ملامح من طفولةٍ آمنةٍ عاشوها ذات يوم، وصارت بعيدةً عنهم، وكأن دهرا فصلهم عنها، لكنهم لا يزالون يحتفظون بأناقة أرواحهم الطاهرة، وفرح الطفولة الخام النقي.. لا يزالون، على الرغم من الألم الشديد الذي يفوق قدرتهم على الاستيعاب (من حسن حظهم) قادرين على أن يعبروا من عتبة الألم إلى عتبة الحلم، إلى عالمٍ سعيدٍ آمنٍ، عرفوه يوما، حين كانوا لا يزالون يعيشون تحت سقفٍ، ويستحمون بماء ساخن، ويأكلون طعاما لذيذا، ويحلمون بمستقبل ومهنة وموهبة.
تلك الذكريات الأشبه بالوشم لا تزال محفورةً في ذاكرة أطفال سورية، تُقوّيهم، وتمدّهم بقوةٍ
يحتمي أطفال سورية بمخزون ذاكرتهم من موسيقى، وقراءةٍ ولعبٍ وحلم، ليهربوا من وحشية الواقع والبشر، يستنهضون قوةً مُذهلةً من أرواحهم النقية نقاء نور فجرٍ يبدّد ظلمات كثيفة، يرفعون نظرهم إلى السماء، ويتجاهلون سرب الطائرات التي تقصف، وترمي براميل مُتفجرة، ولا يرون إلا سرب عصافير تزقزق فرحا بالحياة. يتظاهرون بأنهم يحتمون بخيمةٍ، لكن مسكنهم الحقيقي طفولة بكامل بهائها وقوتها، لا تزال في قلوبهم الممتلئة بحب الحياة. القوة الحقيقية هي السعادة.
من يحدّق بدقةٍ في وجوه أطفال سورية يستكشف روحهم الحقيقية، صامدة قوية وأنيقة، تشع من وجوههم نعمة وأملا بالحياة. لستُ واهمة ولا أكتب إنشاءً. ولكن أعترف بكل نزاهة أنه لطالما أذهلتني وجوه أطفال سورية في مُخيمات النزوح، أو وجوههم والعدسة تصورهم كيف يحملون أكياسا وبقايا ألعاب، ويسيرون في طرقاتٍ وعرة تحت القصف، ووسط الجثث وأشلاء بشر. .. كيف لا يزالون يملكون القدرة على الوقوف والمشي، وعلى التحديق في الكاميرا والابتسام، ابتسامة من يتجاوز الكارثة، من يترفع عنها ويحتقرها، ولا يعترف بوجودها. لا يُنسى مشهد طفلة في الثالثة من عمرها تسير خلف والدتها وإخوتها، يذرعون الآفاق سُدى، آملين الوصول إلى مكانٍ لا رصاص فيه، ولا دبابات، ولا براميل مُتفجرة. توقفت تلك الطفلة لحظاتٍ، لتُحكم وضع ربطة شعرها، بعد أن سرحته بأصابعها البضّة. لعلها كانت تتخيل مرآتها الصغيرة في بيتها الآمن، قبل أن ينهار سقفه على من فيه. طفلة في الثالثة من عمرها تملك القوة، لتمشي في طريق الحياة الوعرة، بعد أن شهدت المجازر. لا أنسى هبة الطفلة ذات السنوات العشر، والتي حكت لي كيف شاهدت الصاروخ يهدم بيت جيرانهم في حلب. دمعت عيناها، وهي تصف القطة الجميلة التي كانت تعيش معها في بيت آمن، هبة التي نزحت إلى اللاذقية، وعاشت مع أسرتها في خيمةٍ بائسةٍ، لكنها تقرأ طوال الوقت، وتحلم أن تصير طبيبة.
ترى في وجوه أطفال سورية، خصوصا من في مخيمات النزوح ما لا يُرى، ترى النعمة وأناقة روحٍ طفوليةٍ لم تتشظّ بالرصاص والأحقاد. تدرك أي قوةٍ هي الابتسامة، الابتسامة التي تعني رغبتهم في البقاء على قيد الحياة، وعيش حياة كريمة تليق بهم، واستعادة طفولةٍ ينتهكها العالم أجمع.
أطفال سورية، أطفال النعمة، يفضحون، بوجوههم السمحة الجميلة، انحطاط العالم الأخلاقي، ويؤكدون أن السياسة وعمل رجال العصابات شيء واحد، أو وجهان لعملة واحدة.)