"ماما! وينك؟ أمانة تقولي للإسرائيليّين والله إحنا ما إلنا دخل. ما بدي أموت. أمانة يا ماما!".. بهذه الكلمات يبدأ محمود الترك البالغ من العمر أربع سنوات ليلته في إحدى المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين (الأونروا)، وهو يلتصق بوالدته التي تهدهده لينام وتمسح دموعه.
وتسوء حالة محمود الصغير أكثر فأكثر، حتى أنه صار يتبوّل في ثيابه. فهو يعيش في منطقة لم يسبق لها أن خبرت أحداثاً مثل العدوان الإسرائيلي الذي تشهده اليوم. كذلك هذه الحرب الأولى التي يعايشها. وتروي أم محمود كيف أن صغيرها "يقضي ليالي القصف وهو يبكي. ينظر إليّ ويسألني عن الذنب الذي اقترفه. ويسأل إذا كان والده أو أحد أفراد العائلة قتل إسرائيلياً، وقد هربنا نتيجة ذلك". تضيف "الحرب كانت قاسية وخلقت لديه حالة نفسيّة سيّئة".
وكان فريق من الاختصاصيّين النفسيّين قد زار المدرسة التي تؤوي عائلة محمود وعائلات أخرى نزحت من جرّاء العدوان الإسرائيلي الأخير على غزّة. وقد تحدّث أحد الأطباء إلى والدة محمود، لشدّة ما لفته خوف الصغير الملحوظ بعدما عاينه. وشرح لها مدى حاجة ابنها إلى دعم نفسيّ كبير من قبل العائلة لإعادة زرع ثقته بنفسه، التي كان القصف قد زعزعها. وقد شدّد الطبيب على صعوبة تأمين العلاج المناسب له في الوقت الحالي، لأن العدوان ما زال مستمراً.
ويشكو محمود قائلاً "لا أستطيع النوم. أحلم بالعودة إلى منزلي. الإسرائيليّون يقصفون بالقرب من هذه المدرسة. يستطيعون أن يقتلوني". يضيف "في بيتنا لم أسمع انفجاراً".
من جهته، يمسك ياسر الغولة البالغ من العمر ثلاث سنوات ونصف السنة برداء أمه ويشدّ عليه ويبدأ بالصراخ، عند سماعه أصوات انفجارات. هو يخاف بشدّة. فتضمّه والدته إلى صدرها في محاولة لتهدئة خوفه. لكن ذلك لا يدوم إلا للحظات. فعندما تعود الطائرات لتضرب من جديد، يبدأ ياسر بالصراخ. كذلك يفعل الأطفال الآخرون الموجودون في غرفة الصف نفسها.
لم تغادر عائلة ياسر المدرسة خلال هدنة الساعات الاثنتَين والسبعين. فمنزلها تهدّم، ومصير العائلة مرتبط بإيجاد حلّ للسكن، تماماً كما هي الحال بالنسبة إلى عدد كبير من العائلات. ويزداد قلق الوالد على ابنه الوحيد. فهو يخاف أن تطول الحرب وتسوء حالته النفسيّة فيرافقه ذلك مستقبلاً. ويقول أبو ياسر "لا يستطيع ابني استيعاب تلك الأصوات والانفجارات التي توقظه من نومه". ويخبر أنه "في بداية الحرب عندما كانت الانفجارات تتوالى، كنت أهوّن عليه وأقول له إنها ألعاب ناريّة. كذلك كانت تفعل والدته. لكن عندما نزحنا، صار ينظر إلى الأطفال الذين يسكنون معنا في المدرسة، ويزداد الخوف في قلبه".
محاولات علاج
الاختصاصي النفسي توفيق موسى، حضر مرات عدّة لتفقّد أحوال العائلات محاولاً التخفيف عنهم وخصوصاً الأطفال. فيقول إنه "وعلى الرغم من كل الجهود التي نبذلها في المدارس التي تؤوي النازحين لتخفيف الحمل النفسي عن العائلات، إلا أنها تحتاج إلى جلسات عدّة ومتابعة متخصّصة طويلة بعد انتهاء الحرب بنحو كامل". ويشرح أن "الصدمات المتعلقة بالدماء والتهجير من المنازل وفقدان أحد أفراد العائلة، لا يمكن أن يطيبوا منها إلا بعد علاج مركّز يمتدّ أربعة أشهر على أقلّ تقدير".
ويبدي موسى قلقه على مستقبل الأطفال، في ظلّ حاجتهم إلى رعاية نفسيّة بعيداً عن أجواء الحرب. ويصف مدارس وكالة الأونروا التي تستقبل النازحين بالسجن، وأصوات الطائرات بالعذاب الذي يزيد السجناء فزعاً. ويشير إلى أن استمرار الحرب سيجعل من علاج الأطفال نفسياً، أمراً صعباً للغاية.
وتجدر الإشارة إلى أن 447 طفلاً استشهدوا خلال العدوان على غزّة بحسب أرقام منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في حين أصيب 2877 طفلاً آخر بجروح مختلفة. يقول مدير قسم الاستقبال والطوارئ في مجمّع الشفاء الطبي أيمن السحباني إن هؤلاء جميعهم بحاجة إلى رعاية نفسيّة كبيرة. ويشير إلى أن "عشرات الأطفال المصابين نقلوا إلى المستشفى النفسي. وستقوم الطواقم الطبيّة بعد انتهاء العدوان بدراسة إمكانيّة تأمين علاج نفسي مكثّف للأطفال الجرحى. فعدد كبير منهم بحاجة إلى عناية كبيرة".
إلى ذلك، كانت بعض الحملات التي أطلقها متطوّعون تهدف إلى التخفيف عن الأطفال في مراكز الإيواء. نسرين الشوا ناشطة عملت مع أصدقاء لها في إحدى الحملات. فكانوا يتوجّهون إلى المدارس حيث النازحين، ويجمعون الأطفال ويلعبون معهم.
في البداية، كانت فكرة الشوا جمع الأطفال ومحاولة محو صورة المآسي التي شاهدوها. كانت تهدف إلى امتصاص الصدمة.
وتقول الشوا إن تطبيق الفكرة كان صعباً في البداية. فثمّة أطفال كانوا يرفضون اللعب، أو يرفضون اللعب في تلك المدارس. فرحت أستمع إليهم وإلى شكواهم، وهم راحوا يُخرجون ما يكبتونه من مشاعر في داخلهم". تضيف "ونجحت الفكرة. وبدأوا يشاركون في اللعب".
وتشير إلى أن ما يحتاج إليه هؤلاء الصغار هو علاج بسيط باللعب حتى في ظل العدوان. "فاللعب قادر على أن ينسيهم ما خبروه من مآس بشكل من الأشكال".