تتواصل استعدادات الفرنسيين لأعياد الميلاد المجيدة، ليس فقط من قبل الماكينة التجارية التي تحقق مبيعات استثنائية، بل من طرف عموم المواطنين، على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية، بالغين كانوا أم أطفالاً، في ظل قلق مستمر من وقوع أي طارئ قد يعكر صفو هذه الفرحة، وهو ما تجلّى في نقص كبير في عدد السياح.
ويكفي للدلالة على أهمية هذه الأعياد في الاقتصاد الفرنسي النظر إلى حجم التجارة الرقمية، المتعلقة بأعياد الميلاد، فحسب (Fevad) فدرالية التجارة الرقمية، ستشهد هذه السنة ارتفاعاً مقارنة بالسنة الماضية. وتتوقع الفدرالية زيادة بنسبة 10 في المائة، وهو ما يرفع ما سيدفعه الفرنسيون في الإنترنت إلى ما يقرب من 14 مليار يورو. وهو رقم قياسي جديد في هذا القطاع.
وتبيّن الفدرالية أنّ 7 من كل عشرة مستخدمين للإنترنت يشترون هدايا لمناسبة الميلاد على الشبكة، أي نحو 32 مليون مستخدم للإنترنت في فرنسا، بزيادة مليونين هذه السنة. وهذه الدفعة التي تقدمها أعياد الميلاد للاقتصاد الرقمي ستجعل رقم المبيعات يتجاوز 70 مليار يورو.
عيد تضامن وإنسانية
العديد من الطقوس والتقاليد والعادات تصاحب عيد الميلاد، المؤمن يذهب للقداس، والآخرون يحتفلون به على طريقتهم، باعتباره عيداً إنسانياً شاملاً يتجاوز البعد الديني، فيما يرى فيه أتباع الديانات الأخرى عيداً يتداخل فيه الجانب المسيحي بالإنساني، فيصبح مثالاً للتسامح والتضامن وتبادل الهدايا، وإظهار أكبر قدر من الإنسانية.
ومن الشروط الواجب توفرها في العيد أن يكون الجوّ بارداً، ولم لا أن تتساقط الثلوج، فالأبيض لون العيد المفضل، والثلج يمنحه سمة خاصة، ويعطي معنى لبابا نويل القادم من بلاد الثلوج، كما تنتشر الديكورات في كل مكان، في البيت وفي الشارع والأماكن العامة وفي المتاجر والمؤسسات. كل شيء من أجل عيد الميلاد.
كذلك يحرص الجميع على شراء شجرة الميلاد بأحجام متفاوتة، كل حسن إمكاناته، وتختلف ديكوراتها من مدينة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، ومن بيت لآخر، وتوضع بالقرب منها مختلف الهدايا التي يتبادلها المحتفلون.
والميلاد عيد عائليّ بامتياز يَحرص فيه الفرنسيون على بذل كل جهد للوجود معاً على الرغم من الظروف والإكراهات، ويأكلون بنهم مختلف الأنواع من الأسماك واللحوم، من المحار وفواكه البحر ولحم الديك الرومي والكبد الدسمة وكعكة عيد الميلاد والحلزون، وأنواع الطعام المختلفة.
ومن الطقوس المرافقة للاحتفال أيضاً، إشعال النار في المدفأة، لمن لا يزال يمتلك مدفأة (خاصة في المدن والبلدات الصغرى)، لأن الأسطورة التي يعرفها الصغار تقول بأن بابا نويل ينزل منها.
الفقراء والمحرومون يحتفلون أيضاً
وعلى الرغم من أن الإعلانات الإشهارية المبكرة عن هذه الاحتفالات ونشر تخفيضاتها وإرشاد المستهلكين لاختيار الهدايا المناسبة، إلا أن الأمر لا يعني الفقراء الذين يحتفلون أيضاً بهذا العيد على طريقتهم.
وتحرص الأقسام الاجتماعية في البلديات، بالتنسيق مع جمعيات إنسانية (الإغاثة الشعبية، والإغاثة الكاثوليكية والإغاثة الإسلامية)، وغيرها وجمعيات محلية أهلية، على تنظيم عشاء للمحرومين، وللذين يعيشون بلا مأوى. وتحرص بلدية باريس، منذ عقود، على تنظيم عشاء لهؤلاء المحرومين على متن السفن السياحية (بَاتُو مُوشْ) التي تجوب نهر السين، فتقدم لهم ملابس جديدة وعشاء فاخراً يتضمن أسماكاً وأنواعاً من اللحوم وشوكولاتة وبعض الهدايا.
كما أن المواطنين، وبوحي من روحيّة هذا اليوم الاستثنائي، ينفتحون بشكل أكبر على جيرانهم، خاصة من الذين يعيشون في عزلة، مهما كانت أصولهم ودياناتهم، فيُشركونَهم في بهجتهم. وهذا ما أكده لـ "العربي الجديد"، مامادو، وهو متقاعد سنغالي يعيش في مأوى للعمال، والذي تدعوه أسرة فرنسية منذ سنوات لقضاء العيد معها.
المسلمون يحتفلون
يحتفل مسلمو فرنسا بالمناسبة أيضاً، وكل بطريقته، وبدرجات اندماجه في المجتمع. بعضهم يحافظ على الطقوس، وبعض آخر يكتفي بالبعد الإنساني، من تضامن وتهنئة، وطبعاً بشراء وتبادل الهدايا.
وتقول حكيمة الخطابي، باحثة في البيولوجيا في جامعة باريس السادسة، وتقطن الضاحية الباريسية، إنها وعائلتها يحتفلون بعيد الميلاد. "كيف يمكن لك ألا تحتفل، وأبناؤك الصغار، خاصة، يحدثونك خلال أسابيع عن الهدية التي سيأتي بها بابا نويل؟!"، وتضيف "من حسن حظنا أن بيتنا يتوفر على مدفأة، سيأتي عبرها بابا نويل... العام الماضي اشترينا شجرة الميلاد"، وتعترف أن الظروف صعبة ومؤلمة، وبسبب تدفق المهاجرين وحالة الخوف من الاعتداءات، قررنا أنا وزوجي أن نساهم في جمع أموال ومساعدات نظّمها المسجد لإخواننا اللاجئين السوريين".