شراكات متعددة أقامتها الدول والقوى الكبرى مع أفريقيا، فهناك شراكة بين القارة وأميركا والصين والاتحاد الأوروبي، ورغم هذه الشراكات ما زالت الصناعة في أفريقيا وليدة، ولا يمكنها المنافسة مع صناعات من ادعوا شراكتها، فأفريقيا في ذهن هذه القوى وخططها، ليست أكثر من قارة غنية بالموارد الأولية، وسوق بكر خلال السنوات القادمة.
في عام 1989 اعتمدت الأمم المتحدة العقد الأخير من الألفية الثانية، العقد الثاني للتنمية الصناعية في أفريقيا، واعتمدت الأمم المتحدة يوم 20 نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام للاحتفاء بيوم التصنيع في أفريقيا، على اعتبار ما تضيفه الصناعة من قيمة مضافة عالية، وما تتيحه من فرص عمل دائمة ومستقرة، وتعتبر الفترة من 2016 - 2025 هي العقد الثالث للتنمية الصناعية بأفريقيا.
التقرير الاقتصادي للجنة الأفريقية لعام 2019، يشير إلى أن القارة حققت معدل نمو 3.2% في 2018، متراجعًا بنسبة 0.2% عما تم تحقيقه في 2017، ويبين التقرير أن مصادر هذا النمو تتمثل في زيادة الصادرات من المواد الأولية، نظرًا لتحسن أسعارها في السوق العالمي، وكذلك الاستثمار في البنية الأساسية، والاستهلاك القوي داخل القارة، وهو ما يظهر أن الصناعة في أفريقيا ليست من المصادر الرئيسة المولدة والمساهمة في النمو الاقتصادي، وأن القطاعات الخدمية والزراعة ما زالت هي المسيطرة على المساهمة بنسب أكبر في توليد النمو في أفريقيا.
ويذهب التقرير إلى أن تحقيق أهداف التنمية المستدامة بالقارة يتطلب مضاعفة معدلات النمو الحالية ثلاث مرات، كما أن الأمر يحتاج إلى تمويل يراوح ما بين 614 و638 مليار دولار سنويًا، وهو ما يصعب تحقيقه على أرض الواقع لوجود فجوة تمويلية كبيرة.
أما تقرير اللجنة الاقتصادية لعام 2017 عن "التحضر والتصنيع من أجل التحول في أفريقيا"، فيبين أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة في القارة خلال الفترة 2007 - 2013 ركز بشكل رئيس على قطاعات غير الصناعات التحويلية، وذهب إلى القطاعات ذات العائد السريع.
فجاء قطاع النفط والغاز والفحم في مقدمة القطاعات التي استحوذت على الجانب الأكبر من الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنحو 31.8 مليار دولار، ثم قطاع العقارات والتشييد 22.9 مليار دولار، ثم الصناعات الاستخراجية في التعدين والمعادن 14.2 مليار دولار، ثم قطاع الاتصالات 8.7 مليارات دولار، وكان نصيب الصناعات التحويلية بالمرتبة الأخيرة، ما قبل قطاع السيارات، حيث ضم التصنيف أهم عشر قطاعات جاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة في أفريقيا خلال هذه الفترة.
تحديات الصناعة
على الرغم من التحسن الذي تشهده بعض الدول الأفريقية في مجالات مختلفة، إلا أن هناك مجموعة من التحديات على الصعيد العام تواجه التقدم والتنمية بأفريقيا، كما توجد تحديات تخص قطاع الصناعة على وجه التحديد.
ومن التحديات العامة، أن جزءًا كبيرًا من دول القارة لا يزال يفتقد للنظم الديمقراطية والمجتمعات الحرة، التي تمكن الشعوب من المشاركة في خطط التنمية، أو ممارسة الرقابة والمحاسبة لحكوماتها، فضلًا عن استمرار بعض النزاعات المسلحة والحروب الأهلية، كما هو موجود في بعض الدول العربية الأفريقية وفي جنوب السودان.
وعلى الرغم من أن عدد سكان دول قارة أفريقيا يبلغ 1.28 مليار فرد في 2018، إلا أن الناتج المحلي لأكبر 10 دول في القارة شديد المحدودية، فلم يتجاوز 1.7 تريليون دولار، وهو رقم يزيد بقليل عن الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية وحدها في 2018، والبالغ 1.61 تريليون دولار.
أيضًا لا يزال الفقر متمكنًا من بعض شعوب دول القارة، خاصة في دول أفريقيا جنوب الصحراء، فهي دول في معظمها شديدة الفقر، كما تتمتع بنسب عالية من الفساد، على الرغم من المبادرات الدولية لتحسين مستوى المعيشة في هذه الدول.
كما أن التصنيع يعتمد على وجود سوق رائجة، خاصة أن أفريقيا تضم نحو 56 دولة وعدد سكان كبيرا، ومع ذلك فالتجارة البينية بين دول القارة لا تزيد عن 16%، وليس هذا من قبيل الاختيار لدول القارة، ولكنها مضطرة إلى هذا، فمعظم صادرات الدول الأفريقية متنافسة، بمعنى أنها تنتج سلعا متشابهة، وهي في الغالب سلع أولية، وفي أحسن الأحوال سلع صناعية تقليدية. كما تجد دول أفريقيا نفسها مضطرة لاستيراد احتياجاتها من الخارج، خاصة في مجال المعدات والآلات وخطوط الإنتاج، لأنها لا تنتج في الدول الأفريقية.
أما على مستوى التحديات الخاصة بقطاع الصناعة، فالدول الأفريقية لا تنتج التكنولوجيا، التي هي عماد الصناعة، وما زالت العولمة تحتفظ بأهم سماتها، وهي إنتاج التكنولوجيا في الدول المتقدمة، وتصدير الصناعات التقليدية والملوثة للبيئة للدول النامية، والتي تشمل كل دول أفريقيا بلا استثناء.
أيضًا تعد قضية التمويل من القضايا التي تمثل تحديًا كبيرًا لقطاع الصناعة في أفريقيا، فالاستثمارات المحلية والأجنبية تركز على العائد السريع، بينما طبيعة الاستثمار في الصناعة تستوجب الاستثمارات متوسطة وطويلة الأجل، وهو ما يضعف موقفها أمام القطاعات الأخرى، مثل التجارة والاتصالات والسياحة وغيرها من الأنشطة الخدمية سريعة العائد.
كما أن قبول غالبية، إن لم يكن كل الدول الأفريقية، بمبدأ حرية التجارة في مطلع التسعينيات من القرن العشرين، وضع قطاع الصناعة أمام منافسة غير عادلة، فما استطاعت الصناعة الأفريقية أن تعمل في ظل سياسات إحلال الواردات، ولا استطاعت أن تتجه نحو التصنيع من أجل التصدير، حيث اجتاحت الصناعات الأجنبية للدول المتقدمة والصاعدة الأسواق الأفريقية، وجعلتها جزءًا مهمًا من استراتيجيتها التسويقية.
أفريقيا بين التصنيع والابتكار
منذ فترة، كانت الدعاوى الدولية تركز على أن التصنيع هو المخرج لأفريقيا من الفقر، وعلى دولها أن تهتم بالتصنيع، ولكن أتت صحوة جديدة بأن الابتكار وليس التصنيع هو مستقبل القارة ومنقذها من التخلف، وهي دعاوى نظرية تفتقد إلى وجود نظرة فاحصة لما تعيشه دول القارة من تحديات على أرض الواقع.
فأفريقيا التي تستقبل هذه الدعاوى عبر المؤتمرات والمبادرات الدولية، تستهدفها الدول الكبرى للاستيلاء على مواردها الطبيعية، كما تعمل على تشجيع هجرة العقول من الدول الأفريقية إليها، وبالتالي يصبح الحديث عن الابتكار في القارة مجرد شعار لا يخرج عن كونه مبارزة إعلامية.
وإذا كانت المبادرات والعقود الأممية صادقة في النهوض بالصناعة في أفريقيا، فلتُعِن دولها على ذلك، من خلال نقل وتوطين التكنولوجيا بدول القارة، وجعلها جزءا من حلقات التصنيع العالمي، كما حدث مع الدول الصاعدة، مثل الصين وكوريا الجنوبية والبرازيل والهند.
وإذا كانت أفريقيا قد شهدت عقدين للتنمية الصناعية خلال الفترة الماضية، وتعيش العقد الثالث خلال الفترة (2016 – 2025) فلا بد من أن تكون هناك مستهدفات حقيقية خلال هذه الفترة، لكي تنتقل القارة إلى مرحلة متقدمة في الصناعة، تساهم بها في تحقيق مستهدفات التنمية المستدامة.
ولكن الأداء الأممي والدولي على عهده في التعامل مع الدول النامية، من خلال إطلاق مبادرات براقة تفتقد إلى المقومات الحقيقية، سواء على مستوى إمكانيات الدول، أو على مستوى ما تقدمه الدول المتقدمة والقوى الاقتصادية الكبرى، فما زالت مطالب الدول النامية، ومنها الدول الأفريقية، تتمثل بتجارة عادلة وليس تجارة حرة، كما تطالب بنقل التكنولوجيا وليس احتكارها من قبل الدول المتقدمة.