يرى مراقبون أنّ ثمة حقيقة جليّة تكمن في أنّ القوى المحلية والدولية لا ترغب في إيصال بعض أمراء الحرب المحسوبين على تيار الجهاد الأفغاني ضد الروس إلى الحكم، مثل إسماعيل خان في جنوب الغرب، وعطاء محمد نور في الشمال وجل آغا شيرزاي في الجنوب، وفي الوقت عينه لن ترضى في اضمحلال قوة هؤلاء تماماً، لأنهم ورقة يمكن استخدامها كيفما أرادت وأينما شاءت.
عندما اجتاحت القوات السوفيتيية أفغانستان عام 1979، لجأ معارضوها الأفغان إلى دول الجوار، بغية التأسيس لاعتماد مفهوم "الجهاد" ضد السوفييت وضد الحكومة الموالية لهم في كابول، وأصبحت تلك الأحزاب تقتات مع مرور الوقت بدعم المجتمع الدولي. انقسم التيار الجهادي، بتشجيع من بعض دول المنطقة، إلى سبعة أحزاب في باكستان، هي؛ "الجمعية الإسلامية" بزعامة برهان الدين رباني، و"الحزب الإسلامي" بقيادة قلب الدين حكمتيار، و"الاتحاد الإسلامي"، و"الحركة الإسلامية" التي كان يتزعمها المولوي محمد نبي محمدي، و"الحزب الإسلامي"، بزعامة الشيخ يونس خالص، و"الجبهة الإسلامية الوطنية"، وحزب "نجاة أفغانستان"، وحزبان في إيران هما؛ "الوحدة الإسلامية"، التي كان يتزعمها عبد العلي مزاري الذي قُتل على يد "طالبان" عام 1995، والتي يتزعمها حالياً كريم خليلي، و"الحركة الإسلامية" بزعامة سيد أصف محسني.
وبعد انسحاب القوات الروسية من أفغانستان ومنذ سقوط حكومة رئيس الجمهورية محمد نجيب الله الموالية لها عام 1992، دخل المجاهدون إلى العاصمة الأفغانية كابول منتصرين، لكن سرعان ما تحوّلت تلك الأحزاب إلى جماعات متناحرة في ما بينها من أجل الوصول إلى السلطة، ودمّرت كابول والمدن الأفغانية وقتلت عشرات الآلاف من المدنيين. الصفحة الدامية للأحزاب الجهادية، والتي تَحوّل بعض قادتها المنخرطين في الحرب الأهلية في أذهان الأفغان إلى أمراء حرب، طُويت بظهور حركة "طالبان" عام 1995.
وبعد استيلاء "طالبان" على قندهار وبعض المناطق الجنوبية، انقسمت الأحزاب الجهادية بين مؤيدين ومعارضين للحركة، في حقبة وصفت آنذاك بـ"لعبة جديدة لاستخبارات المنطقة". لكن بعض الشعب الأفغاني الذي أنهكه الفساد، وقطع الطرقات والخطف بغية الحصول على المال إضافة إلى الحروب الأهلية، رحّب بـ"طالبان" وساعده في بسط نفوذها حتى وصلت من الجنوب إلى الشمال بعد السيطرة على كابول وإعلانها حكومة عُرفت باسم "الإمارة الإسلامية".
لم تتمكن الأحزاب الجهادية المجتمعة تحت مظلّة جبهة الشمال التي عُرفت بـ"المقاومة"، والتي كانت تضم حكومة برهان الدين رباني المعترف بها دولياً وأحزاب جهادية أخرى، كـ"الحزب الإسلامي"، و"الاتحاد الإسلامي"، و"حزب الوحدة" من مواجهة "طالبان" لفترة طويلة. وسرعان ما تلاشت قوتها بعد مقتل قائدها العسكري أحمد شاه مسعود أحد أبرز القيادات الميدانية في أفغانستان ضد القوات السوفييتية في عملية انتحارية، قيل إنّ تنظيم "القاعدة" نفّذها.
اقرأ أيضاً أفغانستان: حلفاء "طالبان" داخل الحكومة والمؤسسة العسكرية
برز دور الأحزاب الجهادية بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وبعدما قرّرت الولايات المتحدة الإطاحة بحكومة "طالبان". وكانت جبهة الشمال المكوّنة من الأحزاب الجهادية والقومية المعارضة لـ"طالبان"، سلاحاً في يد واشنطن. ونتيجة القصف العنيف للقوات الأميركية والدولية، سقطت حكومة "طالبان". وكان مسلحو جبهة الشمال أول من دخلوا إلى كابول وسيطروا على المباني الحكومية قبل تشكيل الحكومة الديمقراطية بإشراف الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، والتي كان يتزعمها الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي.
وكان لجبهة الشمال أو المحسوبين على الجهاد الأفغاني، طيلة فترة حكومة كرزاي التي تجاوزت الـ10 سنوات، حصة كبيرة من المناصب السيادية في الدولة، من بينها وزارتا الدفاع والداخلية ورئاسة الاستخبارات، كما في مجلس الشيوخ والبرلمان. وبالتالي، كان معظم القوميين في الحكومة والذين جاؤوا من الغرب، تابعين لهم في سياساتهم، لأنّهم مقربون من كرزاي. كما أنّ الأخير والقوات الأميركية كانوا بحاجة لهؤلاء الجهاديين أمثال، صبغة الله مجددي، وعبد الرب رسول سياف، وبسم الله محمدي، وجل أغا شيرزاي، وإسماعيل خان، وأمر الله صالح، باعتبارهم يمثّلون القوة العسكرية على الأرض، كما أنّ القوات الأميركية كانت ولا تزال ترغب في وجود قوة عسكرية موازية للجيش والقوات المسلحة الأفغانية، حفاظاً على مصالحها.
في الانتخابات الرئاسية الأفغانية عام 2014، وقف قادة جبهة الشمال وبعض الشخصيات الجهادية (عبد الرب رسول سياف، وإسماعيل خان، وجل آغا شيرزاي، وأمان الله كذر، ومحمد عطا نور) إلى جانب الرئيس التنفيذي الحالي للحكومة، عبد الله عبد الله، لكونه أحد أعضاء جبهة الشمال. وبعد إجراء الجولة الثانية من الانتخابات، وقعت المعضلة، إذ رفض عبد الله نتيجة فوز خصمه. ورجّح خبراء سياسيون، أن يكون كرزاي وراء ما حصل، وأنّه سعى إلى إفشال العملية الانتخابية، ليبقى في الحكم. لكن عبد الله وأحمد زاي توافقا، بعد مسارٍ طويل، على تشكيل حكومة "الوحدة الوطنية".
وعند دخول عبد الله عبد الله إلى الحكومة، كانت جبهة الشمال تطمع بالحصول على المناصب السيادية كالسابق، لكن أحمد زاي تمكّن من خلال خبرته الواسعة في الإدارة من حرمان معظم هؤلاء من المناصب السيادية، ووضع أربعة شروط أساسية مع عبد الله لتعيين الوزراء، منها أن يكون الوزير مختصّاً بالوزارة التي يتسلّمها وحصل على شهادة جامعية في هذا المجال، وألا يكون من الوزراء السابقين، إضافة إلى عدم كونه من المتورطين في الفساد. بهذه الشروط، حرم جميع قيادات جبهة الشمال من المناصب المهمة، باستثناء صلاح الدين رباني نجل الرئيس السابق برهان الدين رباني الذي يشغل منصب وزير الخارجية في الحكومة الحالية.
انتظر كرزاي وباقي قيادات جبهة الشمال أو الأحزاب الجهادية فترة زمنية، متوقعين انهيار الحكومة، إلّا أنّ الأخيرة لم تواجه أي عقبات، فلجأ هؤلاء إلى تحركات جديدة لخلق عقبات في وجهها بهدف إخضاعها لقبول مطالبهم.
كان سقوط قندوز في يد "طالبان" نهاية شهر سبتمبر/أيلول الماضي، فرصة لاستعادة الأحزاب الجهادية قواتهم العسكرية، فدعا هؤلاء إلى تظاهرة شعبية ضد "طالبان". وعقدت القيادات الجهادية، منهم عبد الرب رسول سياف، وزعيم "الجمعية الإسلامية"، صلاح الدين رباني، وزعيم "الحزب الوطني" البشتوني، أنوار الحق أحدي، والقياديون في "الجمعية الإسلامية"، بسم الله محمدي، وإسماعيل خان، وأمر الله صالح، ومحمد عطاء نور، اجتماعات عدة، طلبت على إثرها من الرئيس أشرف غني التحرك ضد "طالبان". ووزّع بعض القادة الأسلحة على الشعب، إلا أن الرئيس شدّد على أن السلاح سيكون فقط في يد الجيش، وطلب من الشعب الوقوف إلى جانب القوات المسلحة من دون التسلّح.
اقرأ أيضاً سقوط قندوز بيد طالبان: ضرب للنفوذ الصيني بالشمال الأفغاني؟
ظلّت حكومة "الوحدة الوطنية" تقوم بأعمالها، ما دفع كرزاي وأنصاره إلى فتح جبهة جديدة ضد الحكومة، مستخدمين العديد من الملفات، وفي مقدمتها الملف الأمني. لكن تلك المحاولات فشلت بعدما أعلن قادة من الجهاد الأفغاني حزباً مستقلاً تعاون مع الحكومة في المشاريع الوطنية، فأفشلت هذه الخطوة محاولات كرزاي وأنصاره الأخيرة.
وعمد الرئيس أحمد زاي إلى توظيف بعض القيادات في الحكومة، والتي كان كرزاي وأنصاره يحاولون استخدامهم ضد الحكومة، مثل رئيس الاستخبارات السابق أمر الله صالح، ووزير التعليم في حكومة كرزاي، فاروق وردك. وعلى الرغم من خسارة الكثير من القيادات الجهادية المناصرة له، يحاول كرزاي استعمال كل ورقة ضغط ممكنة لإخضاع الحكومة وقبول مطالبه، منها عدم متابعة بعض القضايا المالية التي تورطت فيها أسرته، وتعيين بعض الأشخاص من معسكره في الحكومة.
ولهذا الهدف، عقد كرزاي اجتماعات مع قادة "الجهاد" السابقين، ودعاهم في أعقاب كل جلسة إلى عقد مجلس قبلي موسّع للنظر في الحالة الأمنية التي تسود البلاد، هادفاً، بحسب بعض المراقبين، إلى حجب ثقة القبائل عن الحكومة. وأدت الحالة الأمنية المتوترة إلى تمديد الحكومة ولاية البرلمان الحالي، عوضاً عن إجراء الانتخابات البرلمانية هذا العام.
ويعدّ البرلمان الأفغاني الحالي، سلاحاً في يد جهات عدّة، وعقبة أساسية في وجه سياسات الحكومة. فعلى سبيل المثال، لم يتمكن الرئيس أشرف غني من تعيين وزير الدفاع حتى الآن، لأن البرلمان لا يمنح الثقة لكل من يُرشّحه الرئيس للمنصب. وبعدما رفض البرلمان في يناير/كانون الثاني من العام الحالي، بضغط بعض الدول لا سيما إيران، المرشح الأول للمنصب الجنرال شير محمد كريمي، رشّح الرئيس أشرف غني، معصوم ستانكزاي، إلّا أنّ قيادات في جبهة الشمال، استنكروا تعيين الأخير.
في المقابل، ادّعى المسؤولون في الحكومة، أنّ أحد قيادات جبهة الشمال المقربين من إيران وروسيا، القائد عطاء محمد نور، وزّع مبالغ كبيرة تلقّاها من إيران على نواب البرلمان للوقوف أمام تعيين وزير الدفاع، وبالتالي لم يحصل الرجل على ثقة البرلمان في جلسة عقدت لهذه المناسبة في الرابع من شهر يوليو/تموز الماضي. لكن الرئيس أحمد زاي أصدر قراراً بتعيين ستانكزاي، قائماً بأعمال وزير الدفاع.
كل هذه المراحل، جعلت خبراء سياسيين يؤكدون أن وجود بعض الشخصيات الجهادية وأمراء الحرب داخل الحكومة الأفغانية، ورقة رابحة لجهات داخلية وإقليمية ودولية ترغب في بقاء هؤلاء، باعتبار أنّ الوصول إلى الأهداف عن طريقهم، أسهل. في المقابل، تحتاج تلك الشخصيات الجهادية المذكورة إلى الدعم الخارجي للحفاظ على نفوذها ومصالحها وبقائها في السلطة.
اقرأ أيضاً: قوة خاصة لـ"طالبان" لمحاربة "داعش"... وخسائر أمام الحكومة الأفغانية