أفلاك عزمي بشارة
لماذا يظل عزمي بشارة راهناً اليوم؟ يحتاج هذا السؤال أولاً إلى تمييز ضروري بين عزمي بشارة المثقف النظري وبين بشارة "الكاركتر" ذات المسيرة المعقّدة والعابرة لحقول النظرية والسياسة والأدب والميديا.
هكذا يمكننا أن نعيد صياغة السؤال على النحو التالي: لماذا يظل عزمي بشارة المثقف النظري، أو بالأحرى نقصد منتجه النظري، راهنا اليوم؟
لم تكن الثورات العربية لحظة حاسمة على الصعيد السياسي فحسب، بل كانت كذلك على الصعيد الثقافي، إذ أنهت الثورات صلاحية كثير من الأعمال النظرية التي أنجبتها أزمنة استقرار السلطويات العربية، خاصة ما كان يخص منها المأزق العربي التاريخي، حيث تغيرت السياقات إلى حد صارت فيه بحاجة إلى تنظير جديد جذرياً.
وإذا كنّا نصف بالكلاسيكي تلك الأعمال النظرية أو الفنية التي تظل حيوية رغم تقلب الأزمان، فإن أعمال بشارة التي خرجت في أغلبها قبيل اندلاع ثورات الربيع العربي تخوض اليوم تحدياً صعباً يكمن في اختبار مدى كلاسيكيتها، أي مدى حيويتها حتى بعد الثورات، ثم بعد إخفاقها.
تعتبر دراسة المجتمع المدني هي العمل النظري الأول البارز في مسيرة بشارة، وعلى الرغم من أن العمل هو إسهام نظري مفاهيمي يتحرك في إطار فلسفي، إلا أن دوافع العمل وهمومه وخلاصاته ظهرت محكومة بهموم المثقف العربي.
أتت أطروحة الكتاب في إطار الجدل الذي شاع منتصف التسعينيات حول مفهوم المجتمع المدني، ودوره في ريادة التحول الديمقراطي على غرار تجربة حركة تضامن النقابية البولندية، وما مثّله ذلك من انتصار لأطروحة المجتمع المفتوح التي قدمها فيلسوف العلم كارل بوبر، وأطروحة المجال العام الذي يمثل الخصيصة الأساسية في المجتمع الحديث والفعل التواصلي الذي يتم في المجال العام ويؤسس لإمكانياته الأخلاقية والديمقراطية، وهي أطروحة الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس.
لكن بشارة من موقعه كمثقف عربي يبحث عن طريق إلى الديمقراطية في العالم العربي، هذا من جهة، ويلمس من جهة أخرى أزمة الهوية والانتماء التي تؤطر المأزق الحضاري العربي الذي يمثل غياب الديمقراطية مكوّنه السياسي فحسب، يقوم في عمله هذا بمراجعة نقدية تكشف محدودية هذا الطرح. وستظل محاولة المصالحة الصعبة تلك بين الديمقراطية والعروبة هي الهاجس الفكري الأهم لبشارة الذي سيطلق عليه لاحقا: المسألة العربية.
يرفض بشارة أولاً اعتبار المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية مترادفين، ويوضح كيف أن مفهوم المجتمع المدني كان مفهوماً قد تشكّل عبر تمفصلات تاريخية في المجتمعات الأوروبية بدأت بالمجتمع السياسي الذي غادر حالة الطبيعة، ثم المجتمع الرأسمالي أو السوق خارج الدولة، قبل أن يظهر أخيراً كحيز عام خارج السوق والدولة بعد اتساع الطبقات الوسطى في دولة الرفاه وفي ظل أنماط إنتاج جديدة لا تخلق طبقتين متقابلتين رئيسيتين على غرار الرأسمالية الكلاسيكية.
ما ينطلق منه بشارة هنا هو أطروحة تذكرنا بأطروحة التطور اللامتكافئ الماركسية الشهيرة التي ترفض التطبيق الفوري لنموذج التطور الرأسمالي الغربي على المجتمعات غير الرأسمالية وغير الغربية، وهذا التطور اللامتكافئ هو ما يجعل تلك المجتمعات ذات سياق خاص له متطلبات وشروط مختلفة.
يرفض بشارة لذلك فرضية أن يؤدي المجتمع المدني أو تمظهره الحركي في المنظمات غير الحكومية، وغير السياسية، دور الفاعل الأساسي في مسيرة التحول الديمقراطي، ويعود بشارة في المسألة العربية ليؤكد أنه ما من سبيل إلى تحول ديمقراطي عربي إلا عبر ديمقراطيين يطرحون برنامجاً للحكم.
وقد شهدت بلدان الثورات العربية دوراً فاعلاً لحركات سياسية أقرب إلى نمط المنظمات غير الحكومية منها إلى نمط الحزب أو التنظيم السياسي، كحركة كفاية وحركة 6 أبريل في مصر، والاتحاد العام للشغل في تونس، غير أن التجربة أثبتت عجز ذلك النمط عن الانتقال من حالة الاحتجاج إلى حالة تفكيك وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها وغيرها من مهام التحول الديمقراطي؛ بل إن ذلك النمط أظهر قابلية للخضوع إلى تلاعب النظم السلطوية وتوظيفه في صراعات تنأى به عن أهدافه الديمقراطية، ليكون أقرب إلى نمط معطّل منه إلى مشروع حكم.
وقد عجز بشارة نفسه في إطار الحراك الثوري العربي عن رفض ذلك النمط. فرغم نصيحته المتكررة للثوار بالعمل على التفكير في الدولة وبناء الديمقراطية، إلا أنه ظلّ حبيس الخيال الليبرالي في عملية البناء الديمقراطي الذي يخشى الحلول الجذرية والمواجهة الحاسمة مع مشكلات الانقسام السياسي، سواء بالصدام القاطع أو بالتسويات والتفاهمات النهائية، أي ظل حبيس مربع البحث عن التوافق اليوتوبي. وسيظل ذلك الخيال الليبرالي هو المعضلة التي لم ينجح بشارة إلى حد ما في تجاوزها أو حلها.
المهم هنا هو أن بشارة يظهر وعياً نوعياً إذا ما قورن بأغلب المثقفين العرب من ناحيتين: الأولى، هي تركيزه الضمني على أولوية العمل السياسي نحو بناء الديمقراطية، ومغادرته بالتالي أرض الجدل الثقافي العربي حول ضرورة علمنة المجتمعات العربية ونبذ الإرث الديني واستيراد مفاهيم الحداثة؛ تلك الضرورة التي تعني الأولوية المطلقة للعمل الثقافي الذي يضحي مهمة لا نهائية، ويسقط ذلك العمل في الخيار الصعب، وهو التحالف مع السلطة ضمنيا ضد الإسلاميين باعتبارهم الخصم الثقافي لذلك الطرح. إن بشارة لا يرفض هنا الدور التحديثي للدولة، بل إنه على العكس من ذلك، يرفض تطييب المجتمع وشيطنة الدولة كما يصرح، لكنه يريد للدولة أن تكون ديمقراطية أثناء قيامها بتلك المهمة.
أما الثانية، فهي وعي بشارة بأن هذا العمل السياسي لا مفر من أن يكون مشروعاً للحكم، لا مجرد ممارسة احتجاجية بصورة أو بأخرى في انتظار تحقق شروط التحول الديمقراطي بحسب نظريات الأكاديميا الغربية، وهو أمر أشبه بانتظار غودو، بل وربما العمل على توطيد الأوضاع غير الديمقراطية بحجة انتظار أن تتحق شروط التحول الديمقراطي. ومرة أخرى، يرفض بشارة تطييب المجتمع، أو يوتوبيا العمل الثقافي والاجتماعي خارج السياسة كطريق لإصلاح السياسة.
لكن البيان الديمقراطي العربي، أي مشروع الحكم الديمقراطي الذي يحمله الديمقراطيون العرب، عليه أن يواجه أولاً بحسب بشارة ما يسميه "المسألة العربية". فعجز العرب عن بناء دولتهم القومية أدى بحسب بشارة إلى نشأة دول منقوصة الشرعية، وهو ما خلق أزمات اجتماعية وهيكلية كالاقتصاد الريعي ومقاومة القبيلة أو المجتمع الأهلي للتحديث وحلول الدين محل القومية كانتماء سياسي.
يرى بشارة لذلك ضرورة حل المسألة العربية، عبر بناء أمة المواطنة أو المجتمع المدني في الداخل، بما يتجاوز سياسات الهوية التي تقسم الأمة إلى طوائف أو كيانات دون الدولة أو إلى متخيلات فوقها كالأمة الدينية أو العرق أو القومية. لكن تلك الدولة ستبقى بعد ذلك تمثل نحو الخارج أمة سياسية لها ملامحها القومية. هكذا يشعر أبناء تلك الأمة بأن دولتهم تعبر عنهم وعن همومهم وانتماءاتهم الثقافية.
انتقد المفكر السوري ياسين حاج صالح هذا الطرح من بشارة باعتباره أن القومية لا تشكل حلاً لسياسات الهوية، وإنما مشروع العدالة، غير أن بشارة في جوهر طرحه لا يذهب بعيداً عما يرمي إليه ياسين حاج صالح، لكنه يبقي على القومية لا كحل لأزمات الدولة في الداخل وإنما كوجه لشرعيتها في الخارج، وإلا فالرفاه والمواطنة لن يغنيا عن الميل نحو انتماء ثقافي يوفره الدين أو القومية. هنا ينجح بشارة على العكس من حالة المجتمع المدني في تجاوز الخيال الليبرالي أكثر من حاج صالح، نحو الوعي بالبعد الجماعي الذي لا تحسمه العدالة الاجتماعية التي توفر الرفاه للمواطنين.
هذه هي الأطر أو الأفلاك الثلاثة التي يتحرك فيها بشارة وندور معه فيها: أولوية السياسة لتحقيق التحديث العربي، ضرورة تقديم الطرح السياسي الديمقراطي كمشروع حكم، وحتمية بناء أمة مواطنين أو مجتمع مدني في الداخل وأمة سياسية نحو الخارج.
تفرض تلك الأطر راهنية بشارة المثقف النظري أياً كان موقفنا من بشارة "الكاركتر"، وتجعلنا ندور في أفلاك بشارة النظرية سواء قبلنا أو رفضنا أفلاكه الشخصية والسياسية.