تحتفي "دار النمر للفن والثقافة" (بيروت) بأفلام أردنية، يكشف معظمها غلبة الاشتغال البصري، وامتلاكه جمالية البحث في علاقة الصورة بالذات والتاريخ والتفاصيل اليومية. التعاون مع "الهيئة الملكية الأردنية للأفلام" (عمّان) يؤدّي إلى تخصيص يناير/ كانون الثاني 2019 بسينما تسعى إلى إيجاد حيّز لها في المشهد العربي، وتنجح غالبًا بجهود مخرجين شباب يبغون صورة سينمائية تعكس وقائع العيش في اختبارات حياتية مختلفة.
الأفلام المختارة مُنجزة في الأعوام القليلة الفائتة. أشهرها جماهيريًا، لترشيحه الرسميّ لجائزة "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي (النسخة الـ88 المُقامة في 28 فبراير/ شباط 2016)، "ذيب" (2014) لناجي أبو نوّار؛ لكن الفيلم مستندٌ إلى لغة سينمائية (إنتاجًا وتصويرًا وإدارة ممثلين وكتابة وسردًا) تمتلك شرطها الفني. الخيارات الأخرى تقول شيئًا من حيوية العمل السينمائي الراهن في بلدٍ يعتمد على الخدمات الإنتاجية وأماكن التصوير، من دون أن يُلغي هذا الاعتماد حراكًا محليّا يُنتج أفلامًا مُثيرة للانتباه، ومحرّضة على المُشاهدة والمتابعة والنقاش: "الجمعة الأخيرة" (2011) ليحيى العبدالله، و"انشالله استفدت" (2016) لمحمود المساد. أقلّها أهمية "لما ضحكت موناليزا" (2012) لفادي حداد، رغم استناده إلى قصة تمتلك أبعادًا نفسية واجتماعية وحياتية، تبقى باهتة في المعالجة والتمثيل والسرد، وبعض السرد مائلٌ إلى كوميديا منقوصة وطرافة معطّلة. اختياره لافتتاح "شهر الأفلام الأردنية" (6.30 مساء غدٍ الثلاثاء، 8 يناير/ كانون الثاني 2019) أشبه بتمهيدٍ يعتمد الخفّة والبساطة، قبل البدء برحلة اكتشاف (أو إعادة اكتشاف) بعض المُنجَز السينمائي في المملكة الأردنية. رحلة تعرّي ذوات أفرادٍ (الجمعة الأخيرة)، وتستعيد لحظة تاريخية (ذيب)، وتواكب تفاصيل يومية لأناسٍ يُقيمون في الخديعة كي يقتاتوا عيشًا، وهذا معطوفٌ على شيءٍ كبيرٍ من طرافة مواقف وعمقها، ومن سلاسة ضحك ممزوج بألم الاجتماع والعلاقات (انشالله استفدت).
تبدو الموناليزا الأردنية معطوبة. شخصيتها منطوية على نفسها لقسوة العيش رفقة شقيقتها، المعطوبة هي أيضًا لفقدانها حبيبًا قديمًا يتخلّى عنها في لحظة مصيرية. العطب سمة أفراد واجتماع. القلق والارتباك والانفعالات الملتبسة والأجوبة المعلّقة عناوين غير مكتملة لخواء في الكتابة والسرد والمعالجة وبناء الشخصيات وصنع الحكاية وادّعاء الإضحاك. التوهان بين كوميديا غير مكتملة ومآزق مُدمِّرة يحول دون اكتمال الصورة المطلوبة لفيلمٍ يُثير ضحكًا، لسذاجة تبدو الأكمل بين المفردات الأخرى كلّها. موناليزا (تهاني سليم) جافة الملامح، أو هكذا يُفترض بها أن تكون. الأداء مرتبك، بدلاً من أن يكون الأداء انعكاسًا لارتباك الشخصية. هي لا تضحك أبدًا. تمضي أعوامًا بلا وظيفة، وعندما تحصل على واحدة، تزداد القسوة حولها، والقسوة ميزة نساء تُحِطْن بها. ما من امرأة سوية. جميعهنّ مكسورات بسبب حبّ موؤود أو خيانة مفضوحة. لكن المعالجة الدرامية، بسبب بهتانها، تُضفي على مصائب الشخصيات مصيبة الاشتغال السينمائي المعطَّل.
هذا غير حاضرٍ في الكوميديا الهادئة والبسيطة والمتماسكة، التي يصنعها محمود المساد (كتابة وإخراجًا وتمثيلاً)، بعنوان "انشاالله استفدت" (6.30 مساء 22/ 1). كوميديا الـ"نكد" تلك (كما في تعليق نقدي) نتاج خليط سينمائي بين ضحكٍ منبثق من مواقف مثيرة للسخرية وعوالم غارقة في شقاء وقهر وتمزّقات. الركيزة الدرامية الأساسية متمثّلة في شخصية أحمد فرّاج (أحمد ظاهر)، الذي يجد نفسه فجأة في السجن بتهمة احتيال، فهو عاجز عن تسديد قرضٍ بـ1800 دينار. قبل دخوله السجن، يسرد المساد شيئًا من أحواله وشخصيته وكيفية عيشه. في السجن، لن يتغيّر أحمد فرّاج. لكن التفاصيل مختلفة. هذا عالم لن يُدرك الباقون خارجه متاهاته ودقائقه وأحواله. قريبٌ له يحاول تأمين المبلغ، لكن بيئة أحمد وقريبه قابعة في فساد وجرائم بسيطة وصدامات وخدع وأكاذيب وضلال. الحصول على المبلغ صعبٌ، لكن السياق الحكائيّ يمتلك شيئًا من سلاسة قول وطرافة موقف وبساطة لغة، رغم أن تشذيبًا دراميًا ـ ولو قليلاً ـ كفيلٌ بتكثيف حبكته وفضائه الإنساني.
بعيدًا عن الكوميديا والـ"نكد" وأحوال بيئة وتفاصيلها، يتفرّد "الجمعة الأخيرة" (6،30 مساء 15/ 1) بتعمّقه في ذاتٍ فردية، يسعى صاحبها إلى خلاصٍ لن يكون حكرًا على صحّته، بل على عيشه كلّه. يوسف (علي سليمان) مُصاب بعطبٍ صحي في خصيته، وعليه إجراء عملية جراحية خلال أيام قليلة. لا عمل لديه، والهوة سحيقة بينه وبين امرأته، والوقت يُسرع في المضي قدمًا، والاختناق يزداد، والمحيط الاجتماعي مرتبك. لغة يحيي العبدالله غير متكلّفة بقدر ما تجعل سلاسة السرد أداة تفكيك وتعرية سعيًا إلى ما يُشبه المُصالحة مع الذات من دون فذلكة أو خطابية. أهوال الاجتماع ويومياته تنكشف بهدوء لن يمنع تبيان مضمونها القاسي. بعض هذا يرتكز إليه "ذيب"، وإنْ في زمنٍ آخر. الحرب العالمية الأولى مشتعلة، والصبي ذيب (جاسر عيد)، المنتمي إلى إحدى القبائل البدوية الأردنية، يتفتّح وعيه على عالمٍ غير عارف به البتّة. وصول جندي بريطاني يُدعى إدوارد (جاك فوكس) مع دليلٍ عربي (حسن مطلق) يُبدِّل حياته كلّيًا. الأجنبي يبحث عن شيء لن يبوح به، فيطلب من شيخ القبيلة مساعدة تكتفي بإرشاده على طريق توصله إلى مُراده. ذيب يلتحق بشقيقه حسين (حسين سلامة)، مُرشد إدوارد ودليله إلى الطريق المطلوبة. المغامرة عميقة المعاني والتفاصيل. الرحلة مُصوَّرة بجماليات مثيرة لمتعة المُشاهدة. الأهوال جزءٌ من اختبار العيش والمواجهة. الفرد يُقارع الظلمات كي ينجو من الموت، وينجح في اختبار الحياة.
هذه نماذج مختلفة المستويات والمعالم والحكايات. هي جزء من حراك سينمائي أردني شبابي يُساهم، بشكلٍ أو بآخر، في صناعة مشهد سينمائي عربي جديد، يريد شيئًا من التجديد، فيختبر مفرداته وأدواته.