بوقفته الشهيرة، وشخصيته، وسيرته الغنية، والأساطير التي حيكت عن بطولاته، يبدو بلا منازع الشخصية الأكثر جذباً في العالم للسينما. فمنذ عام 1897 إلى اليوم، كان مصدر إلهامٍ لأكثر من ألف فيلم روائي ووثائقي، طويل وقصير، سينمائي وتلفزيوني. لنابليون بونابرت، المُحارب والإمبراطور، مكانة متفرّدة في الفن السابع، سواء حضر في أو عبور خاطف، أو ظهر كمجرّد صورة خلفية في مكانٍ ما. هو مَحطّ إعجاب قوي، أو رفض باهر. في كلّ فيلمٍ من أيّ بلد وأيّ زمن، في كلّ تجسيد له، يُلهِم قراءة مختلفة للتاريخ مشوبة بالأسطورة، وبالانحياز أو بالأفكار المسبقة، وبقراءة تعكس ـ بإعادة بنائها ـ لوحة عن عالم معاصر.
بدأ نابليون بـ"الظهور" منذ الأخوين لوميير، في أفلامٍ قصيرة صامتة. ثم كانت ملحمة "نابليون" (1925)، أحد الأعمال الرئيسية في التراث السينمائي العالمي، وتحفة السينمائي الباريسي آبِل غانس، الذي مَهّد للسينما الناطقة بحثّ ممثليه في الفيلم على لفظ الكلمات الدقيقة للسيناريو. غانس، المأخوذ بالقائد الفرنسي، عاد إليه في فيلمٍ ناطق، "أوسترلتِز" (1960). حروب نابليون، ولوحة نفسية لبطل يُجسّد روح الثورة الفرنسية: "مُتهوّر واستبداديّ وقابل للخطأ، لكنّه أيضاً جذّاب واستراتيجي وداهية، قادر على اتّخاذ قرارات عسكرية سريعة". نابليون أولاً في هذين الفيلمين، يتبدّى شعور بسحرٍ يمارسه الإمبراطور على المخرج. فهو، بفضل إخراجٍ وُصِف بـ"العبقريّ"، اختار جانبه بوضوح، وقدّم تعريفاً لأعدائه شبه كاريكاتوري ليس في صالحهم. "نابليون" (1954)، لساشا غيتري، أقلّ اهتماماً من غانس بدقّة التفاصيل، لكنّه ـ كما وصفه نقّاد فرنسيون ـ بَيّن بموهبته الخاصة أنّه لا يزال أحد أعظم عشّاق الشخصيات الكبيرة في تاريخ فرنسا، مع فيلمٍ دام أكثر من ثلاث ساعات، عن سيرة حياة كاملة، ونجاحات شخصية تاريخية، وإخفاقاتها وأوهامها. غير الفرنسيين حقّقوا أفلاماً عن نابليون بونابرت: سيرته، أو مراحل من حياته. "وداعاً بونابرت" (1986)، ليوسف شاهين، عن حملة نابليون على مصر. يُدرج الفيلم فرنسياً في معظم لوائح الأفلام المهمّة عن القائد الفرنسي. كما يُشار إلى أول أفلام الأميركي ريدلي سكوت، الذي قدّم "المتبارزون" (1977)، واختار أن يكون أكثر عن فرنسا وجيشها في عصر الإمبراطور، من أنْ يكون عن سيرته. ستانلي كوبريك انجذب، بدوره، إلى نابليون، وبعد تحضيراتٍ دامت عامين، ألغي المشروع لضخامته. لكنّ نابليون ليس الفرنسي الوحيد المُلهِم للسِيَر الحياتية في السينما الفرنسية والعالمية. هناك "القدّيسة" الفرنسية التي أتاها الوحي لتحرّر مدينة "أورليانز" من الإنكليز، وتُعتبر مصدر وحي لا ينفد للسينمائيين. منذ عام 1900، أظهر جورج مِلييس "جان دارك" في مشاهد شهيرة من حياتها، في فيلم قصير (8 دقائق)، لحقه الدنماركي كارل دريير، الذي شبّه، في فيلمٍ صامت، "آلام جان دارك" (1928)، بآلام المسيح، في محاكمة قامت على سيناريو آخّاذ وإخراج عملاق لجان دارك مقيّدة أمام جمهور أدانها قبل الاستماع إليها. روبير بروسّون اهتم بـ"محاكمة جان دارك" (1962)، في نصوصٍ أصلية من عملية الإدانة. إخراج معلم، وتجسيد لا يقارن في سموّه وعفويته لفلورنس دوليه، في فيلمٍ يُعتبر من أرفع الإنتاجات، ووثيقة تاريخية، وشهادة لا مثيل لها عن الشخصية والغموض الذي يلبسها. وجذبت سيرة "جان الخادمة" (1994)، جاك ريفيت على نحو تاريخي، فاعتمد على مؤرّخين وشهادات من ذلك العصر لفيلمٍ بجزئين. وتلاعب لوك بوسون بعض الشيء مع التاريخ، مُقدّماً ـ في إخراج حيوي مُبالغ به كعادته ـ رؤية مختلفة للشخصية، بإعطائها مواصفات الفتاة المعاصرة، في "جان دارك" (1999). فرنسياً وعالمياً، اهتمّت السينما بالموروث الشعبي التقليدي لحكاية جان دارك، كما في آخر فيلمٍ صامت عنها: "الحياة الرائعة لجان دارك" (1928)، للفرنسي ماركو دو غاستين، و"جان دارك" (1948)، للأميركي فكتور فلمينغ، الذي اهتمّ بالجانب نفسه لتجسّده إنغريد برغمان.
وجذبت سيرة جان دارك أيضاً الأميركي سيسيل. ب. دو ميل وآخرين. إلى اليوم، لا تزال تُنجَز أفلامٌ عنها، آخرها "جان الأسيرة" (2011)، لفيليب راموس. انتعاش متأخّر أفلام السيرة نوعٌ قديم في السينما، تشترك بكونها تخطُّ مصيراً استثنائياً لشخصية ما، ليست بالضرورة تاريخية، إذْ ربما تكون معاصرة، وليست محصورة بالقادة السياسيين، بل تشمل علماء وأدباء وفنانين وشخصيات عامة. تفرض السيرة سرداً ملتزماً أو حرّاً، فهناك أفلام تتقيّد باتّباع حياة شخصية تماماً، أو تأخذ حرية التصرّف بحياتها، أو تختار مرحلة محدّدة لتناولها من دون التطرّق إلى السيرة كلّها. وجد هذا النوع مكاناً له في الفن السابع منذ عام 1899، مع "كليوباترا"، فيلم من دقيقتين للفرنسي جورج ملييس. منذ ذلك الحين، لم يتوقّف إنتاجه في فرنسا وأوروبا وأميركا والهند والصين وغيرها. تُعتبر فرنسا الثانية عالمياً في إنتاج هذا النوع من الأفلام، بعد الولايات المتحدة الأميركية، تليها بريطانيا. كما أنّها أكثر بلد توجد فيه أفلام سِيَر ذاتية حقّقها أصحابها عن أنفسهم (بعضها إنتاج مشترك)، كـ"400 ضربة" (1959)، لفرنسوا تروفو، و"ليبارك الله فرنسا" (2014)، لعبد المالك وتجربته في الإسلام، و"شواطئ آنياس" (2008)، لآنياس فاردا، و"المنبهرون" لسارة سوكو (2019)، الذي يروي تاريخ أسرتها في الخضوع لسطوة جماعة دينية. منذ عام 2000، انتعشت أفلام السِيَر، مع نجاح "الحياة الوردية ـ الطفلة" (2007)، لأوليفييه داهان، عن المغنية الفرنسية إديث بياف، الذي اعتُبر من أفضل أفلام السِيَر الحياتية، والذي بفضله فازت ماريون كوتيار بجائزة "أوسكار" أفضل ممثلة، وكانت المرة الأولى التي يحصل فيها دور بلغة أجنبية على هذه الجائزة. الفيلم اعتمد سرداً مخلصاً لحياة البطلة، منذ طفولتها ومعاناتها ونجاحاتها وإخفاقاتها. بيعت 6 ملايين بطاقة لمُشاهدته في فرنسا وحدها، ونال شهرة عالمية، وحقّق إيرادات ضخمة. كما لفت الأنظار إلى وجود شخصيات فرنسية معروفة عالمياً، يُمكن أن تكون موضوعاً لفيلم عن حياتها، وتحقّق مبيعات في بلدان كثيرة. فجاءت أفلام أخرى من النمط نفسه، كـ"داليدا" (2017)، لليزا أزولوس، و"كلوكلو" (2012)، لفلوران ـ إيميليو سيري، عن حياة المغنّي كلود فرنسوا. وفي 20 عاماً (1995 ـ 2014)، عُرض خارج فرنسا 22 فيلم سيرة. لو أنّ فرنسا تختار سياسييها في أفلامٍ أقل مما تفعل الولايات المتحدة، فإن شخصية مثل شارل ديغول لا بدّ أنّ تحظى باهتمامٍ كبير. أحدث فيلم عنه بعنوان "ديغول" (2020)، لغابريال لوبومان. أفلام السيرة في فرنسا تهتمّ بشخصيات عامة، كمُصمّم الأزياء إيف سان لوران، الذي أنجزت ثلاثة أفلام عنه منذ عام 2010، منها "سان لوران" (2014)، لبرتران بونيلّو، وعالم البحار جاك كوستو، الذي حقّق عنه جيروم سال "أوديسا" (2016).
ويحظى الرسّامون باهتمام خاص، بسرد حياتهم بدقّة كما في "سيزان وأنا" (2006)، لدانيال تومبسون، أو بالتركيز على مرحلة محدّدة منها، كما في "رودان" (2017)، لجاك دوييون، أو بتقديم رؤية جديدة تعرض أعمالهم للجمهور العريض بدقّة نادرة، اعتماداً على التقنيات الحديثة، كما في "أنا، فان غوغ" (2009)، لجاك غامبلان وهلن سوزاريت وبيتر ناب. هذه أمثلة. السينما الفرنسية اهتمّت، قبل عام 2000، بفانسان فان غوغ وتولوز لوتريك وبول غوغان وأوغوست رونوار، مُقدّمة أفلاماً عدّة عنهم. كما لفت مجرم فرنسي شهير، يُدعى جاك مَسْرين، أنظار السينما، حين بات "العدو رقم 1 للسلطات"، فكانت سيرته الكاملة في 3 أفلام: "مَسْرين" (1984)، لأندريه جينوفس، و"غريزة الموت" و"العدو رقم 1"، اللذان أنجزهما جان ـ فرنسوا ريشي عام 2008. إعجاب جماهيري إذا كان فيلم السيرة نادراً، قياساً بالأنواع الأخرى، الكوميدية والاجتماعية مثلاً، فهو يلقى افتتاناً وإعجاباً، ويسهل ترويجه لدى الجمهور. لكن هذا لا يمنع وجود مخاطر إنتاجية تتعلّق بالمال والوقت للمتعاملين معه. فهو يحتاج إلى وقتٍ طويل للتحضيرات، من تساؤلات حول كيفية تناول حياة الشخصية المختارة، وما يُمكن كشفه من خفاياها، واختيار الممثل أو الممثلة، ومفاوضات مع المعنيين حول الحقوق. كما أنّ فيلم السيرة لا يعيد إحياء شخصية فحسب، بل عصرها أيضاً، ما يتطلّب أعواماً من العمل، واستثماراً مالياً كبيراً. ومع وجود إيجابيات لجهة توفّر القصّة والمعلومات التاريخية، فلا ضمانة للنجاح. فالجمهور، وإنْ أحبّ هذا النوع، متطلّب بشأنه، لأنّه يحنّ إلى عصر مضى، وينتظر من الفيلم إحياء هذا العصر، ويريد معرفةً عبر سيرة فيلمية عن شخصية ما، أو هو يعرف لكنّه يتوق إلى اكتشاف المزيد مما خفي عنها، والتحقّق مما يعرفه، ورؤيتة مجسّداً تماماً على الشاشة، بحيث يطابق خياله وتصوّراته ومعلوماته، ما يجعل السيرة نوعاً سينمائياً معقّداً عليه، عدا عن صعوبات الإنتاج: أنْ يتوافق مع توقّعات الجمهور عن شخصية، هي جزء من عالمه. هذه عوائق يتمّ التفكير بها عند كتابة السيناريو، وتنفيذ الفيلم. لكن، كما يقول عاملون في الوسط السينمائي الفرنسي: "المخاطر كبيرة، لكنّ الأمل بالنجاح مُعادل لها".