"وكائنْ ترى مِنْ صامتٍ لكَ مُعجِبٍ.. زيادتُهُ أو نقصُـهُ في التكلّمِ"، حفظنا مراراً هذا البيت مع غيره من أبيات معلّقة زهير بن أبي سلمى في أيام الدراسة الثانوية. وحفظنا معه معناه الذي يحثنا على انتظار اكتمال إعجابنا بشخص نقابله حتى يتكلم، فإن تكلّم قد يزداد إعجابنا به أو ينقص.
التكلّم في البيت ليس مجرد كلام، فهو فعل وردّ فعل وشعور بالآخر وانسجام معه. كلّ ذلك وغيره يحدد موقفنا اللاحق منه. أما الصامت فهو ليس مجرّد شخص بالتالي، فقد يكون وضعاً ما أعجبت به من الخارج وعندما دخلتَ إليه ازداد إعجابك به وتابعت طريقك فيه كأفضل ما يكون، أو نقصَ ذلك الإعجاب مع انكشافه أمامك، فلعنت الساعة التي أعجبت به فيها، وتلقفت أيّ حبل للخلاص.
كثيرة هي هذه المظاهر المغايرة لتصوراتنا الأولية عنها وانطباعاتنا. بل يقع معظمنا فيها إذا ما خاض أمواج الحياة الاجتماعية يوماً بعد يوم، ولم يلتزم الرمال الدافئة الناعمة والآمنة للشاطئ.
تلك الأمواج تشبه موجة نانسي (بليك ليفلي) في فيلم "ذا شالوز" (إخراج جاومي كوليت سيرا 2016)، التي كانت تبدو مثالية جداً من أجل الركوب بلوحها. بعد عدة حملات ناجحة في بحر تلك الجزيرة المكسيكية التي كانت تتذكر فيها والدتها الراحلة، نزلت نانسي هذه المرة وحدها في المياه وقررت توديع النهار بالموجة الأخيرة. كانت موجة لعينة قلبتها وأفلتت حبل اللوح من قدمها، ولم ينته الأمر إلّا مع عضة قرش لفخذها. ولولا ظهور جزيرة صخرية صغيرة جداً استنجدت بها مع بداية الجَزر، لأُكلت في لحظتها.
من هذه الأمواج أشخاص ناجحون. وقد يكونون مجرد أشخاص لكنّنا أعجبنا بهم من الخارج. وربما يكونون منظمات وجمعيات ومنظومات مختلفة، بعضها رياضي وآخر ثقافي أو أكاديمي أو إعلامي أو حقوقي.
الأساس أنّ الحكم على هؤلاء من ذلك الخارج ينقصه الكثير جداً من عناصر التقييم التي لا تظهر إلّا من الداخل. ربما يكون تقييماً إيجابياً وربّما يكون سلبياً، ليست المسألة هنا على الإطلاق. زاوية النظر هي الأساس، فكما أنّ لكلّ عملة وجهين، فإنّ لكلّ شخص أو منظومة، أكثر بكثير من مجرد وجهين.
هي وجوه متداخلة معقدة، قد ننفر منها لحظة إدراكنا بعض حقيقتها. وقد نغوص أكثر لنتبيّن ما أمكننا من تلك الحقائق فنعجب بها أو ننفر. وقد نقرر أن نتغاضى عمّا لا يعجبنا ونلتزم بما يعجبنا فيها ونغلّبه على ما عداه. وكذلك، قد نقرر أنّ الأمر بأكمله لا يستحق مثل هذا التعب، فنركب أول موجة تصادفنا بعده.
هي انطباعاتنا عنه في ظاهرها، أو في ظاهرها وباطنها، لكنّها في الوقت عينه قد لا تشبه انطباعات غيرنا عنه. والأهمّ من كلّ ذلك، أنّها قد لا تشبهه هو نفسه.