بعد نحو مائة كيلومتر، تصل إلى مدينة السويداء، آتياً من دمشق. تدخل المدينة من الجهة الشمالية، وتتجاوز بعد مئات من الأمتار دوّار الشرطة العسكرية، نسبة إلى ذلك المبنى المهجور الواقع إلى شرق الطريق، الذي لم يبقَ منه ما يعرّف عنه سوى اللافتة التي غطّاها الصدأ. وقد أخلي هذا المبنى قبل سنوات، على أثر مواجهات مع قوى محلية. وفي طريقك، تلاحظ على جانبَي الشارع الرئيسي المعروف بالطريق المحوري مجموعة من الخيام المنصوبة. هي كناية عن شوادر المساعدات المخصصة للنازحين من قبل الأمم المتحدة. لكن، عند الاقتراب منها، تكتشف أنّها ليست خيام نازحين بل هي "محال تجارية" تعرض بضائع منوّعة من قبيل الألبسة الجاهزة والعطور وصولاً إلى المساعدات الإنسانية.
تتجاوز شارع المحوري متّجهاً إلى مبنى المحافظة الواقع في قلب المدينة الذي يُعَدّ كذلك مركزها التجاري، فتصادف عشرات من الأكشاك والبسطات التي أقيمت إمّا من شوادر وإما من ألواح من الصفيح، والتي قضمت الأرصفة وأجزاء من طريق الإسفلت.
لا يشعر المارة بالارتياح أو الرضى عن واقع هذا السوق الذي لا يقصده أهل المدينة فقط بل آلاف من سكان الريف كذلك، وتقرأ على وجوههم ملامح الامتعاض والتأفف. وثمّة من لا يتردد في إطلاق بعض التعابير التي تترجم استياءهم من الوضع. ويتساءل أحدهم، وهو يشقّ طريقاً له بين السيارات بصعوبة: "متى سوف نتخلص من هذه الأكشاك ووسخها؟!"، فتردّ عليه امرأة مسنّة: "والله ما عاد في مكان ندعس... يا ابني الله كريم نخلص".
من جهته، يقول أبو عامر، وهو صاحب محل في السوق، لـ"العربي الجديد"، إنّ هذه "الأكشاك والبسطات كانت قبل عام 2011 تعدّ على أصابع اليد الواحدة. لكنّها راحت تزداد مع بداية خروج التظاهرات في عام 2011. حينها، كان يُعرف أنّ من عليها جرى تجنيدهم لقمع المتظاهرين والتصدي لهم. وسرعان ما تحوّلت تلك البسطات والعربات إلى أكشاك من شوادر قماش أو من صفيح". يضيف أبو عامر: "كنّا نغلق محالنا في المساء ونعود في الصباح لنجد أمام محالنا كشكاً ببضاعته. في البداية حاولنا الاعتراض، فتبيّن أنّ أصحاب تلك الأكشاك عصابة واحدة مسلحة. تقدّمنا بشكاوى عدّة، لكنّ مصيرها كان الإهمال. وأصحاب تلك الأكشاك كانوا يعلمون بأسماء من تقدّم بالشكوى ضدّهم، وثمّة من تلقى تهديدات على أثر ذلك في حال كرّر الشكوى في حين أنّ بعضهم سحب شكواه".
ويشير أبو عامر إلى أنّ "ملف الأكشاك اليوم صار ملفاً معقداً جداً، لا سيّما أنّ العصابة تضمّ عشرات المسلحين. وكلّ مجموعة فيها مرتبطة بجهة معيّنة ومحمية من قبلها، سواء أكانت الأجهزة الأمنية بمختلف تسمياتها أم مليشيات محلية أم أشخاصاً نافذين. أظنّ أنّ تعدّد الجهات التي ترعى تلك الأكشاك يحول دون التخلص منها".
من جهته، يخبر أبو سامر، وهو من أهالي المدينة، "العربي الجديد"، بأنّه صار يتحاشى النزول إلى السوق مع عائلته، "إذ لم يعد من مكان متوفّر نسير فيه ضمن زحمة البسطات والأكشاك". يضيف: "وأنا لا أرتاح لأصحاب البسطات والأكشاك، فهم بغالبيتهم يحملون مسدساتهم على وسطهم أو على الأقلّ يحملون السكاكين. ومنهم من يضع عصا أو هراوة بطريقة واضحة داخل كشكه أو بالقرب من بسطته". ويتابع أبو سامر: "بالتأكيد، ثمّة أشخاص محتاجون من بينهم، حتى يعملوا بهذه الطريقة، لكنّهم قلّة. هؤلاء بأكثريتهم مأجورون أو هم على أقلّ تقدير أصحاب مصالح مع جهات هنا وهناك".
ويلفت أبو سامر إلى أنّ "هذه الأكشاك والبسطات صارت كذلك مصدراً لتوزيع الحشيشة والحبوب المخدّرة. وبعض أصحابها لا يخجل ولا يخاف، بل يعرضها عليك علانية. كذلك فإنّ المحروقات والعملات التي تباع في السوق السوداء وغيرها من الأعمال غير المشروعة، تجرى فيها على الملأ". ويتابع أبو سامر: "سبق أن جرى الحديث عن قرار يقضي بإزالة هذه الأكشاك وفي أكثر من مرّة، لكنّ ذلك كان يفشل من جرّاء تكتل الباعة. وسبق أن وقعت صدامات واحتجزوا ضابطاً ومجموعة من عناصر الشرطة. وصار الأمر قائماً بحكم الواقع".
كانت محاولات عدّة لـ"العربي الجديد" للتحدّث مع أشخاص من أصحاب تلك الأكشاك والبسطات، لكنّها انتهت بمعظمها إمّا بالامتناع عن الحديث وإما بتقديم نصيحة بعدم إثارة الموضوع مع تهديد مبطّن. في النهاية، وافق أحدهم. فيقول، وقد تحفّظ عن الكشف عن هويته: "الناس يريدون أن يعيشوا. لا وظائف ولا زراعة ولا باب للسفر، خصوصاً أنّ شباب المحافظة بمعظمهم كانوا يعتمدون على السفر إلى الخارج. لكنّهم اليوم لم يبقَ أمامهم سوى الشارع لتأمين معيشتهم". ويلفت إلى أنّه "حتى يُسمح لك بنصب بسطة أو كشك في السوق، يجب أن تكون مغطّى أو محمياً من قبل جهة ما، أو تكون قادراً على الدفع لإحدى الجهات في مقابل المكان الذي سوف تقف فيه". ويشرح أنّه "في السوق تجد من يغطيه الأمن أو المحافظة أو البلدية، ويكون المبلغ بحسب المكان ونوع السلع التي يبيعها". يضيف أنّه "أخيراً، عرضت البلدية منحنا ساحة خاصة تكون بمثابة سوق شعبي في مقابل مبالغ زهيدة بدل استثمار، وقد وافق جميع أصحاب الأكشاك على ذلك. لكنّ المشروع توقّف من دون أن نعلم لماذا".
في السياق، تقول مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد"، إنّ "أزمة انتشار الأكشاك والبسطات صارت تمثّل قلقاً دائماً للمجتمع، وقد طالبت قوى عدّة اجتماعية وسياسية محلية بإزالتها من السوق، ووصفتها بأنّها بؤرة فساد وخطر تهدد المجتمع. تلك القوى طالبت مؤسسات الدولة الأمنية والإدارية بذلك أكثر من مرّة، لكنّ الجهات الرسمية كانت في كل مرة تحتج بأنّها لا تريد التصادم مع أصحاب الأكشاك، خوفاً من وقوع ضحايا، خصوصاً أنّ بعضاً منهم مسلح". وتشير المصادر المطلعة إلى أنّه بحسب اعتقادها فإن "السبب الحقيقي وراء عدم معالجة أزمة الأكشاك هو عدم وجود توافق على اتخاذ قرار بإنهاء هذه الظاهرة. يبدو أنّ ثمّة مصالح لتلك الجهات للإبقاء عليها، مصالح مادية من جهة، في حين أنّها من جهة أخرى فزّاعة للمجتمع. هي العصا التي قد يستخدمها النظام في أيّ لحظة ضدهم".
وتتابع المصادر المطلعة نفسها أنّه "عندما نجح الضغط الاجتماعي ودفع رئيس البلدية إلى العمل على إنهاء هذه الظاهرة، حدث اتفاق مع أصحاب الأكشاك لقبول الانتقال من السوق إلى ساحة قريبة من مركز المدينة تكون سوقاً شعبياً منظماً. لكنّ رئيس البلدية تلقّى اتصالاً من سلطة أعلى أمرته بإلغاء الأمر. وهو ما ترك أثراً سلبياً بين الناس وزاد من إحساسهم بأنّ السلطة هي التي تعمل على خلق أزمات في مجتمع السويداء".