كثيرون مثله يتبرّمون من التباس الذاكرة داخل جامع كان حتّى وقت قريب، يُدعى سينما "الشعبية". وأحمد نفسه ارتاده في سنوات المراهقة: "أشعر بأنني أصلي خلف أميتاب باتشان"، يقول، ويضيف: "أجده أمامي على منبر الجامع أو في المحراب، رغم توبة المكان وطهارته".
من بين أربع دور سينما في مدينة الحديدة ارتبطت بذاكرة ووجدان أبناء المدينة، تقف حالياً سينما "الأهلية" على عتبة التحوّل إلى جامع ومركز تجاري كبير في حيّ المطراق.
"قريباً.. المساعي مازالت مبذولة وتصميم المسجد والسوق قيد التسويق خيريا"، يقول الشيخ محمد سعد الحطامي، خطيب جامع الزهراء الذي يرأس مؤسسة خيرية تحمل الاسم نفسه في الحديدة.
لا يتحرّج الشيخ محمد، الذي يعدّ حالياً من أبرز الوجوه الدعوية في اليمن، من الاعتراف بأنّه كان سابقاً من أكثر الشباب ارتياداً لسينما "الشعبية" و"الشرق". وقد غمرته مشاعر سعادة بالغة أثناء تسلمه مفتاحهما في العام 2009 بعدما اشتراهما "فاعلا خير".
تغمره مشاعر سعادة لأنّه شارك "في خلق النقيض الوظيفي للمكان". فبحسب قوله: "حالياً تتنزّل الملائكة حيثما كانت الشياطين". سينما "الشرق" بالحديدة أيضاً قد تتحوّل إلى مسجد أو صالة أعراس.
فـ50 دار سينما اكتظت بمئات آلاف المشاهدين منذ بواكير القرن الماضي في عموم المحافظات والمدن اليمنية آلت إلى مصير واحد من الركود والتردي. وفيما نسجت العنكبوت خيوطها على شباك التذاكر في كل من سينما "حدّة" التي يطوقها مسلحون تابعون لشيخ قبلي، وسينما "بلقيس" التي أغلقت مطلع العام 2000، تتشبث سينما "الأهلية" برمقها الأخير أو أنّها تلفظه في ظلّ موات سينمائي شامل. هي التي تعدّ أوّل دار سينما تأسست في صنعاء بداية الثمانينيات من القرن الماضي.
وتبذل إدارة "الأهلية" في صنعاء جهوداً للإبقاء على المكان بهويته الفنية والثقافية. لكنّ الدار التي كانت تسع صالة عرضها 1500 مقعد، باتت في عامي 2007 و2008 تستقبل ما بين 150 إلى 300 متفرّج رغم تطوير تقنيات أدائها وتركيب نظام صوت ديجيتال وعرضها أفلاما عالمية من هوليوود وبوليوود، إلى جانب 800 فيلم من أرشيفها الخاص.
ومنذ 2008 بدأت صالة سينما فندق موفنبيك في صنعاء عروضها الموسمية مساء كل أربعاء. إلا أنّ سعر تذكرة الدخول البالغ 11 دولاراً (1465 ريالاً يمنياً) جعلها تستقبل نخبة جمهور محدّد.
أما مبنى سينما "بلقيس"، الواقع في حيّ التحرير بقلب العاصمة صنعاء، فقد تحوّل إلى ضريح كبير بلا أدنى فائدة. معلومات "العربي الجديد" تقول إنّ مقترحات عدة طرحت في هذا الخصوص، أبرزها تحويله إلى مكتبة عامة. لكنّ حالة الكساح التي تعانيها الجهات الرسمية المختصة لا تزال عائقاً أمام نفيذ المقترح.
نور الدين الفقيه، وهو شاعر حداثي من أبناء المحافظة السمراء الحديدة، يرفض بشدّة فكرة تحويل دور السينما إلى مساجد: "مجرّد إغلاق دور السينما جريمة تمسّ التاريخ الثقافي للبلد من أهمّ مفاصله الفنية، فالسينما ليست مجرّد عمل ترفي بل وثيقة تاريخية". ويعتبر في حديثه لـ"العربي الجديد" أنّ "الجهات الرسمية وتحديداً وزارة الثقافة تتحمّل المسؤولية".
ويشير ناشر ورئيس تحرير مجلة "صيف" اليمنية الأديب محمود ياسين إلى أنّ "السينما أيام زمان، الأفلام الهندية بالدرجة الأولى، أيام السلاسل وشاكا والفراشة، كانت تقدّم استعراضاً لحياة ترفض أن تبقى مذلّة.. حياة البطل ذي القوة والنوايا الطيبة".
عموماً تبدو مدينة عدن (جنوبي البلاد) أكثر المدن اليمنية التي تتحوّل إلى "ثكلى سينما". فهي أوّل مدينة يمنية شاهدت السينما وفيها أكبر عدد دور سينمائية بلغت 11، ولم يبق منها سوى 2 تعملان موسمياً. وقد تعرض بعضها للسطو من قبل نافذين. كما أعادت الدولة بعض مبانيها لمالكيها الأصليين ممن أمّمت أملاكهم حكومة اليسار التي سادت جنوب اليمن في الفترة الفاصلة بين جلاء المستعمر البريطاني وإعادة تحقيق الوحدة.
اللافت أنّ وجود السينما في صنعاء اقتصر خلال عهد الإمامة البائدة التي أطاحت بها ثورة سبتمبر / أيلول 1962 على بيت الإمام الذي يؤكّد مؤرخون أنّه كان يستخدم "أشباح" السينما، أي ظلال الأفلام، لإقناع الناس بوجود "جنّ" كان يدّعي أنّه يأمرهم بمهمات لوجستية عديدة، ويرهب بهم رعاياه.
أما عدن فقد عرفت أم الفنون (السينما) منذ بواكير القرن العشرين وبداية عصر الصور المتحركة والافلام الصامتة. وفي منتصف القرن الماضي حتّى أوائل الثمانينات تربّعت السينما العدنية على عرش الذروة، كما تمثلت سينما عدن في المهرجانات الدولية كلّها حينها.
ولا يمكن ذكر السينما اليمنية، خصوصاً سينما عدن، دون "الماستر حمود"، المؤسس الفعلي للنهضة السينمائية الناطقة والصامتة في عدن وتعود إليه ملكية معظم الدور السينمائية هناك.
كان الماستر أو المعلم حمود أكثر من مجرد مستثمر في مجال السينما. وعرفت سينما عدن باسمه: "سينما المستر حمود". ولاحقا ارتبطت باسم حفيده الماستر طه.
واليوم تتعدّد أسباب اندثار دور السينما في اليمن. ويشير محمد الريمي، الذي يعرّف نفسه بـ"سينمائي سابق"، إلى أنّ السينما في فترة ازدهارها يمنياً لم تؤسس لثقافة سينمائية فعلية وهو ما جعلها عرضة للاندثار المبكر، حدّ الانقراض".
وقال الريمي في حديثه لـ"العربي الجديد" إنّ مدّ الجماعات المتشددة كان له الدور الاكبر في إحالة فنون كثيرة، بينها السينما، إلى خبر كان، لكن كلّ المؤشرات كانت تذهب باتجاه انقراض السينما حتى لو لم يكن للسلفيين والحوثيين وجود".
ويطلق الريمي، وهو على درجة عالية من الثقافة السينمائية، على النظرة الحكومية اللامسؤولة تجاه السينما مصطلح "الملوحة الرسمية" التي تسبّبت بشكل رئيس في وصول السينما اليمنية إلى الحضيض، بحسب قوله.
الأكيد أنّ الرطوبة في المدن الساحلية، وتحديداً عدن والحديدة، أكلت هياكل مباني الدور السينمائية المهجورة وجاءت القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية وشبكات التواصل الاجتماعي، بالإضافة الى القات، لتهيل التراب الأخير على سينما بدأت تلفظ أنفاسها مع الوهلة الأولى للعقدين الأخيرين.
السينما التي حظيت بشغف جماهيري واكتظت قاعاتها بعشاق كثر في الماضي، وكان يمنيون يصطحبون عائلاتهم إليها، وكان ثمة مقاعد مخصّصة للنساء، هي الآن أشبه بطل استثنائي لا يثير دمعة أحد.
حتّى قبل الطفرة التكنولوجية والأسطوانات المدمجة بفترة، بدأ نجم السينما في اليمن بالأفول التدريجي حين تحوّلت السينما في الوعي الشعبي إلى كل ما يرادف الانحراف ومظاهر السمعة السيئة.
انهارت السينما ومعها ذكريات زمن جميل. ويبدو مقرّ سينما "حدّة" بطوبه الأحمر وواجهاته المكسوة بالغبار على أهبة صيرورة مناقضة لوظيفة المكان. وما يدرينا. ربما تتحوّل إلى مقرّ حزب أو منظمة أو جمعية أو مول ضخم مدجج بكاميرات المراقبة، بدل كاميرات السينما الفنيّة.