والواضح أن قضايا العرب، في الشرق الأوسط غالباً، وفي الإقليم، صارت تستأثر بالحصة الأوفى من مشاغل العالم، في الدورات المتعاقبة. وفي الدورة السبعين التي تنتظم حالياً، تحافظ "قضايانا"، وما يتصل بها، (إيرانياً مثلاً)، وما يتصل بها، (الإرهاب مثلاً) على تقدمها، وعلى حضورها الأوسع.
ومن بين الكلمات الأكثر صراحة، والأكثر دقة في تعيين الجوهري في هذه القضايا، والتي استمع إليها قادة العالم وممثلو بلدانه في مقر الأمم المتحدة، كلمة أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
ويسوّغ صفة الصراحة فيها أنها لم تذهب إلى المناشدات التقليدية من المجتمع الدولي للقيام بالدور المتعيّن عليه، ولم تكتف بتشخيص الأزمات والمشكلات السياسية القائمة، في غير بلد عربي، بل قالت الواجب الشديد الإلحاح في الحلول المطلوبة، والمستعجلة، لهذه الوقائع كلها، في فلسطين وسورية واليمن والعراق، وفي ما يخص مسألة الإرهاب وأخطاره.
بدأت كلمة الشيخ تميم أمام المنتظم الأممي بالتأشير، الصريح، إلى أن الانتقائية في تطبيق العدالة والقانون الدولي، ما زالت سائدة في التعامل مع القضايا الإقليمية، ما يضرّ بمفهوم الشرعية الدولية، وسمع العالم من الأمير أن غياب التوافق الدولي يشكل عائقاً أمام حل القضايا المهمة.
وفي هذه الإحالة إلى هذين المسلكين، في معالجة القضايا المتأزمة، ما يوضح ما على المنظومة الدولية أن تتخلى عنه، لا سيما في عجزها الملحوظ عن اجتراح الحلول المطلوبة للأزمات والمشكلات التي تتوالى وتستجد، وأهم ذلك أن يُؤخذ بالتوافق الدولي الذي يقوم على أرضية حماية الأوطان والشعوب ومصالحهما، وأن تنبذ القوى الكبرى، ذات التأثير الوازن، "الانتقائية" في تطبيق القانون الدولي لتحقيق العدالة الكونية المنشودة، ولئلا يتمادى الباغي في نهجه، واستخفافه بالقانون واستهانته بالحقوق الإنسانية العامة.
اقرأ أيضاً: سورية و"داعش" وفلسطين محور مناقشات الجمعية العامة للأمم المتحدة
في شأن فلسطين، وضع أمير دولة قطر، العالم أمام ما ينبغي أن يعرفه، في غضون الجاري في القدس المحتلة، حيث "تتحكم بالسياسة الإسرائيلية عناصر دينية أصولية متطرفة"، تتبع دولة الاحتلال، وتعمد إلى استباحة المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية.
وواجه الأمير العالم الذي ينصت إليه بالسؤال الأوجب أن تتم الإجابة عليه: أليس هذا العنف إرهاباً تقوم به قوى دينية متطرفة؟ ولعلها المرة الأولى التي يأخذ فيها زعيم عربي قضية القدس والمقدسات فيها إلى هذا المضمون الجوهري في القضية كلها، لا سيما أن الشيخ تميم كان بالغ الصراحة في الجهر بالحقيقة التي تدل عليها وقائع الاحتلال والاستيطان ونهب الأراضي وضمّها، وهي حقيقة غياب شريك إسرائيلي لسلام عادل حالياً، ولا لتسوية، الأمر الذي يرى فيه أمير قطر مدعاةً لواجب دولي "لا يمكن التهرّب منه تجاه آخر مسألة استعمارية مفتوحة في التاريخ الحديث"، وذلك بعد أن أكد أن القضية الفلسطينية "قضيةَ شعبٍ شُرِّد من أرضه، وشعب واقع تحت الاحتلال، ولا يمكن تأجيل حلها العادل والدائم لجيل تالٍ".
ولم يبالغ الأمير في صراحته، عندما واجهت كلمته العالم، أمام جمع المنتدين في الأمم المتحدة، بتأكيد أن استمرار القضية الفلسطينية من دون حل دائم وعادل يعد وصمة عار في جبين الإنسانية.
كما واجهته بحقيقة أن المجتمع الدولي مقصر في ما هو أقل من تسوية عادلة، إذ لم ينجح في فرض إعادة الإعمار في قطاع غزة، بعد العدوان الإسرائيلي.
اقرأ أيضاً: قوات الاحتلال تقتحم الأقصى وتفرض القيود على المصلين
تبدّت الصراحة في القضية السورية، تماماً، في دعوة الشيخ تميم إلى "فرض" حلّ سياسي في سورية، ينهي الاستبداد ويُحِلُّ محلَّه نظاماً تعددياً، يقوم على المواطنة المتساوية للسوريين جميعاً، ويُبْعد عن سورية التطرف والإرهاب ويدحرهما، ويعيد المهجّرين إلى ديارهم، ويتيح إعادة بناء سورية. وقال الأمير إن هذا ممكن، "إذا توفرت الإرادة لدى دولٍ بعينها"، وبادر إلى التوصيف الأدق، والأكثر وضوحاً، للصراع في هذا البلد، إذ تحول "حرب إبادة وتهجير جماعي للسكان".
ولا مجازفة، هنا، في القول إن العالم سمع، في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأول مرة أمس، أنه "كان على المجتمع الدولي أن يوقف المجازر في الوقت المناسب، .. ويوفّر الظروف للشعب السوري لإنتاج البديل العقلاني المدني العادل للاستبداد".
وكان أمير قطر في تعيينه هذه المسؤولية الدولية بشأن اتساع مدى العنف والقتل والتهجير في سورية يأخذ المسألة السورية إلى عنوانها الأول، والمتعلق، جوهرياً، بما ارتكبه النظام من أعمال قصف وقتل المدنيين، لمّا كانت المظاهرات السلمية، ولمّا ساق سورية إلى أن تصير "بيئة خصبة لتفاقم ظاهرة التطرف والإرهاب، تحت راياتٍ دينيةٍ ومذهبيةٍ وعرقية زائفة، تهدّد الإنسان والمجتمع والإرث الحضاري في سورية والمنطقة".
وهنا، إذ مضت كلمة الشيخ تميم إلى هذا الأساس في المحنة السورية، فإنها تذكّر من يتداولون في حلول سياسيةٍ، تبقي نظام الأسد ورئيسه، بأنهم إنما يُبقون الأزمة مستمرة، بنتائجها الكارثية الماثلة.
وقد قال الأمير "إن تقاعس المجتمع الدولي عن اتخاذ القرارات والتدابير اللازمة لإنهاء هذه الكارثة يُعَدُّ جريمة كبرى، ويكشف عن فشل وعجز المنظومة الدولية، ويؤدي إلى فقدان الثقة بالقانون والمجتمع الدوليين".
وكما بدأت كلمة أمير دولة قطر بالتأكيد على تلازم إعمال القانون الدولي مع تحقيق التنمية المستدامة، في معرض التنويه باعتماد الأمم المتحدة خطة دولية في هذا الخصوص، فإنها، في ترحيبها بالاتفاق النووي مع إيران، تنسجم مع هذا المبدأ، من حيث تأكيد قطر، في مساندتها الاتفاق، على وجوب إشاعة مبادئ حسن الجوار، والحفاظ على استقرار منطقة الخليج، وتجنيبها أي توترات.
وبدت كلمة الأمير، في إحالتها إلى حسن العلاقات بين قطر وإيران، تقدم نموذجاً للحوار الحضاري والسياسي بين الدول، والذي يقوم على تغليب المصالح المشتركة. وقد جاءت الكلمة، في هذا السياق، إلى التوصيف الأصح للخلافات الحادثة مع إيران، وهو أنها سياسية، وليست مذهبية سنية شيعية، وقد نوّه الأمير إلى ضرورة الاتفاق، بدايةً، على قواعد تنظّم العلاقة بين إيران ودول الخليج على أساس عدم التدخل في الشؤون الداخلية.
وقال "آن الأوان لإجراء حوار هادف من هذا النوع بين دولٍ سوف تبقى دائماً دولاً جارةً، ولا تحتاج لوساطة أحد"، وأعلن استعداد بلاده لاستضافة حوار كهذا.
اقرأ أيضاً:الدورة الـ70 للأمم المتحدة: نووي والقدس ولاجئون
وفيما يتصل بالجاري في اليمن والعراق، جاء لافتاً أن كلمة أمير قطر آثرت الجوهريّ على التفصيلي، عندما أكدت على وجوب إنهاء الحالة المليشياوية في البلدين، ذلك أن هذه الحالة، خارج الدولة، مسبب رئيسي للحرب الأهلية الكامنة التي تتحول إلى حربٍ فعلية. ولم تغفل الكلمة عن الدعوة إلى الانتباه إلى المستجد الشبابي في غير بلد عربي، حين خرج آلاف الشباب العرب، مطالبين برفض التمثيل الطائفي، والذي صار يبرّر الفساد.
ولمّا كان الإرهاب قضية مركزية، فقد أوضح الأمير ما يحسن أن يكون أساساً جوهرياً في تعيين هذه الظاهرة وأسبابها، وفي البحث عن معالجاتها، وأساليب التخلص منها، ووسائل الحد من آثارها ومنع توسعها، وقال إن الإرهاب ينتعش في ظروف اليأس وانسداد الأفق، وأصاب الأمير، هنا، المسألة في العمق، في قوله "لم ينشأ الإرهاب في منطقتنا في ظل سياساتٍ، تضمن للمواطنين العيش بكرامة وحرية، بل نشأ في ظل الاستبداد، وتغذّى على القمع والإذلال، وراكمَ الحقدَ والكراهية من التعذيب في السجون، واستفاد من فقدان الأمل من العمل السياسي السلمي".
وكان أمير قطر صريحاً، في هذا الموضع، في طرحه أن "سلوكَ القوى المؤثرة في المجتمع الدولي أصبح يشوّشُ تصورات الناس، بدلاً من أن يساهم في توضيحها، إذ تُسمَّى ميليشياتٌ مسلحةٌ ترتكب جرائم بحق المدنيين والمؤسسات العامة إرهاباً، وأخرى تمارس العنف والترويع ضد المدنيين لا تُعتبر إرهابية لاعتبارات لا علاقة لها بالمجتمعات المحلية، بل بالدول العظمى والإقليمية، أو لأسباب متعلقة بتحالفات مرحلية".
وقال الأمير إن في النصوص الدينية كافة ما يكفي من التعاليم التي تدعو إلى السلمية والتسامح والتعايش"، كما أن "الناس البسطاء بتديّنِهم الفطري يعتبرون الدين أولاً قيماً وأخلاقأ".
ولا شطط في اعتبار المضامين التي اشتملت عليها كلمة أمير قطر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عناوين أساسية لخريطة طريق، تقوم على المركزي في معاني القانون الدولي والحق في الكرامة الإنسانية، والحفاظ على الأوطان وصيانة الشعوب من آفات الاستبداد والإرهاب، وذلك كما عرضت الكلمة القضايا التي جاءت عليها، وبصراحة كاشفة، وغير معهودة.
اقرأ أيضاً:أمير قطر يبحث مع أردوغان الانتهاكات الإسرائيلية بالأقصى