خلف مشهد التشرّد والهجرة واللجوء السوري، قصص بشر تحوّلوا في الأسابيع الأخيرة إلى مجرّد أرقام بالآلاف يتناولها الإعلام، وإن كان بين الحين والآخر يلقي الضوء على بعض قصص إنسانية منها.
أمّ غسان امرأة سورية سبعينية لجأت إلى بيروت بعد اشتداد المعارك في سورية، في حين يقيم نجلها في الدنمارك منذ سنوات طويلة. هو لم يستطع دعوتها لزيارته منذ عام 2012، إذ بات يُنظَر إلى كل زائر، حتى ولو كان أحد الوالدين، على أنه "مشروع لاجئ". وفي منتصف عام 2012، طلب منها ابنها غسان التوجّه إلى مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وتسجيل نفسها كطالبة لجوء. وبعد انتظار طويل استمر لأكثر من عام وبضعة أشهر، طُلِب من أم غسان أن تتهيأ للسفر. تخبر: "فرحت حينها، إذ إنني كنت سأرى ابني بعد سنوات طويلة. أنا كنت قد تركت سورية وقصدت لبنان، على أمل زيارته. وأخيراً أخبروني بأنني سوف أفعل".
لم تستوعب المرأة أن توجهها إلى الدنمارك يُعدّ لجوءاً، وأنها سوف تستقر مع ابنها. كلّ ما فكرت به هو أنها مجرّد زيارة، مثلما فعلت قبل عشر سنوات، عندما كانت في الخامسة والستين من عمرها. رؤية ابنها، هو ما كان يهمّ أمّ غسان. وبعد فترة، حضر ابنها الثاني من كندا إلى الدنمارك، فالتقت به أيضاً.
انقضت الأشهر الثلاثة الأولى، وشعرت بأن موعد عودتها حان. تروي: "أخبرت ابني بأنني أرغب في شراء هدايا لأحفادي في بيروت، قبل العودة. ضحك وسألني: عن أي سفر تتحدثين؟ لن تعودي إلى لبنان. ستبقين هنا". تشعل سيجارتها وتضيف غاضبة: "هنا، لا أفهم شيئاً. أنزل إلى الشارع وأستغرب كيف أتمكّن من فهم ما يقولونه. أنا معتادة على الخروج وشراء أغراضي بنفسي والحديث مع الناس. أنا لست جاهلة. أنا متعلمة ويصعب عليّ بعد هذا العمر أن أبدو جاهلة في مجتمع ليس مجتمعي. ما يهمّني هو أنني رأيت أولادي وهم بخير. والآن أريد العودة إلى صاحباتي ومعارفي. لا أستطيع العيش هكذا، حتى ولو كان ثمّة عرب هنا".
تقول المرأة السبعينيّة: "نصفي لبناني وفلسطيني ونصفي الآخر سوري. في لبنان، لم أشعر بأنني غريبة بفعل وجود أقاربي. لكنني جننت عندما علمت بأن زيارتي هذه تعني بقائي. لم أفهم ماذا يريدون مني ولماذا ممنوع عليّ العودة إلى لبنان". تتابع: "فهمنا أن لا مجال لدخول سورية بعدما دُمّر كلّ ما نملكه".
ويزداد انفعالها وهي تحاول تحليل ما يجري من حولها. ثم تقول: "منذ ثمانية أشهر وأنا أحاول إقناع أولادي بأنه لا يمكنني البقاء في هذه البلاد. ما لي وما لأوروبا؟ أوروبا لو أرادت مساعدتنا...". ويتدّخل غسان: "ألم أقل إن أمي متابعة سياسية؟ هي تملك جذوراً أرمنية. وكانت في شبابها سورية قومية، قبل أن تتحوّل يسارية ومن مؤيدي جورج حبش (مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين). أمي تحنّ إلى عودها الفلسطيني كثيراً".
وتشدّد أمّ غسان على عدم رضاها عن واقعها في مجتمع لا تجيد لغته ولا ثقافته، بالتالي لا تملك القدرة على التأقلم. وتقول: "يصعب على من هو في مثل سنّي التعايش مع ظروف جديدة، غير تلك التي عهدها. ما فائدة أن أقتلع من جذوري في هذا العمر؟ من يأتي إلى هنا وهو في مثل سنّي، كأنما يرمونه في موت بطيء". تضيف: "أنا أفهم أن يحصل البعض على إقامات، لكنني لا أرغب بها هنا. حتى ولو كان منزلي في لبنان مستأجراً، فهو أفضل بكثير من هذه الغربة الصعبة. لم أكن اشعر بمرض هناك، أما هنا فبدأت أشعر بعجز. وهذا ما لا أريده. أريد أن أبقى في بلد عربي".
يخبر أحد معارف أمّ غسان، أن "ذاكرتها من حديد. حين تجلس وتتناول القهوة معها، تحدثك عن تاريخ طويل لم أكن أعرفه في غربتي خلال 35 عاماً. هي تدرك كثيراً من الأمور". ويشير إلى أنها دائماً ما تسأله إذا كان يستطيع مساعدتها في استرجاع جواز سفرها من الشرطة، حتى تعود.
وأمّ غسان تعبير حيّ عما يشعر به كبار السنّ، الذين انتهى بهم الأمر في بلدان ومجتمعات تختلف جذرياً عن تلك التي كبروا فيها. بعضهم لا يجد صعوبة في التأقلم فحسب، لا بل يشكون أيضاً من وتيرة الحياة المتسارعة ومن انشغال الأبناء في العمل والأحفاد في المدارس وفي أنشطة إلزامية أخرى. باختصار، تختلف ظروف الحياة بالنسبة إليهم.
إلى ذلك، تعبّر أمّ غسّان عن مخاوفها من أن "أكبر هنا ويُرمى بي في مأوى عجزة. هذا أمر مرعب بالنسبة إلي. أفضّل الموت عند باب البيت في الحيّ الذي أقيم فيه في جبل لبنان...". ويقاطعها ابنها قائلاً: "أنت تهينينني يا أمي. من قال إنني سأسمح بانتقالك إلى دار للمسنين؟".
وبعيداً عن مسامع والدته، يقرّ غسان بأن تأقلمها مع الحياة في الدنمارك صعب. وهو يخشى عليها من أن "تصاب بأمراض، نتيجة عزلتها وصعوبة التعايش مع محيطها. هي لا تتكلم إلا العربية، وحتى في السوبرماركت تنهر البائعات بالعربية. وهو ما يسبّب إحراجاً لها". لذا يبحث مع إخوته عن حلّ، لإعادتها إلى لبنان.
إقرأ أيضاً: أوروبا قدر اللاجئين.. رغماً عنهم
أمّ غسان امرأة سورية سبعينية لجأت إلى بيروت بعد اشتداد المعارك في سورية، في حين يقيم نجلها في الدنمارك منذ سنوات طويلة. هو لم يستطع دعوتها لزيارته منذ عام 2012، إذ بات يُنظَر إلى كل زائر، حتى ولو كان أحد الوالدين، على أنه "مشروع لاجئ". وفي منتصف عام 2012، طلب منها ابنها غسان التوجّه إلى مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وتسجيل نفسها كطالبة لجوء. وبعد انتظار طويل استمر لأكثر من عام وبضعة أشهر، طُلِب من أم غسان أن تتهيأ للسفر. تخبر: "فرحت حينها، إذ إنني كنت سأرى ابني بعد سنوات طويلة. أنا كنت قد تركت سورية وقصدت لبنان، على أمل زيارته. وأخيراً أخبروني بأنني سوف أفعل".
لم تستوعب المرأة أن توجهها إلى الدنمارك يُعدّ لجوءاً، وأنها سوف تستقر مع ابنها. كلّ ما فكرت به هو أنها مجرّد زيارة، مثلما فعلت قبل عشر سنوات، عندما كانت في الخامسة والستين من عمرها. رؤية ابنها، هو ما كان يهمّ أمّ غسان. وبعد فترة، حضر ابنها الثاني من كندا إلى الدنمارك، فالتقت به أيضاً.
انقضت الأشهر الثلاثة الأولى، وشعرت بأن موعد عودتها حان. تروي: "أخبرت ابني بأنني أرغب في شراء هدايا لأحفادي في بيروت، قبل العودة. ضحك وسألني: عن أي سفر تتحدثين؟ لن تعودي إلى لبنان. ستبقين هنا". تشعل سيجارتها وتضيف غاضبة: "هنا، لا أفهم شيئاً. أنزل إلى الشارع وأستغرب كيف أتمكّن من فهم ما يقولونه. أنا معتادة على الخروج وشراء أغراضي بنفسي والحديث مع الناس. أنا لست جاهلة. أنا متعلمة ويصعب عليّ بعد هذا العمر أن أبدو جاهلة في مجتمع ليس مجتمعي. ما يهمّني هو أنني رأيت أولادي وهم بخير. والآن أريد العودة إلى صاحباتي ومعارفي. لا أستطيع العيش هكذا، حتى ولو كان ثمّة عرب هنا".
تقول المرأة السبعينيّة: "نصفي لبناني وفلسطيني ونصفي الآخر سوري. في لبنان، لم أشعر بأنني غريبة بفعل وجود أقاربي. لكنني جننت عندما علمت بأن زيارتي هذه تعني بقائي. لم أفهم ماذا يريدون مني ولماذا ممنوع عليّ العودة إلى لبنان". تتابع: "فهمنا أن لا مجال لدخول سورية بعدما دُمّر كلّ ما نملكه".
ويزداد انفعالها وهي تحاول تحليل ما يجري من حولها. ثم تقول: "منذ ثمانية أشهر وأنا أحاول إقناع أولادي بأنه لا يمكنني البقاء في هذه البلاد. ما لي وما لأوروبا؟ أوروبا لو أرادت مساعدتنا...". ويتدّخل غسان: "ألم أقل إن أمي متابعة سياسية؟ هي تملك جذوراً أرمنية. وكانت في شبابها سورية قومية، قبل أن تتحوّل يسارية ومن مؤيدي جورج حبش (مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين). أمي تحنّ إلى عودها الفلسطيني كثيراً".
وتشدّد أمّ غسان على عدم رضاها عن واقعها في مجتمع لا تجيد لغته ولا ثقافته، بالتالي لا تملك القدرة على التأقلم. وتقول: "يصعب على من هو في مثل سنّي التعايش مع ظروف جديدة، غير تلك التي عهدها. ما فائدة أن أقتلع من جذوري في هذا العمر؟ من يأتي إلى هنا وهو في مثل سنّي، كأنما يرمونه في موت بطيء". تضيف: "أنا أفهم أن يحصل البعض على إقامات، لكنني لا أرغب بها هنا. حتى ولو كان منزلي في لبنان مستأجراً، فهو أفضل بكثير من هذه الغربة الصعبة. لم أكن اشعر بمرض هناك، أما هنا فبدأت أشعر بعجز. وهذا ما لا أريده. أريد أن أبقى في بلد عربي".
يخبر أحد معارف أمّ غسان، أن "ذاكرتها من حديد. حين تجلس وتتناول القهوة معها، تحدثك عن تاريخ طويل لم أكن أعرفه في غربتي خلال 35 عاماً. هي تدرك كثيراً من الأمور". ويشير إلى أنها دائماً ما تسأله إذا كان يستطيع مساعدتها في استرجاع جواز سفرها من الشرطة، حتى تعود.
وأمّ غسان تعبير حيّ عما يشعر به كبار السنّ، الذين انتهى بهم الأمر في بلدان ومجتمعات تختلف جذرياً عن تلك التي كبروا فيها. بعضهم لا يجد صعوبة في التأقلم فحسب، لا بل يشكون أيضاً من وتيرة الحياة المتسارعة ومن انشغال الأبناء في العمل والأحفاد في المدارس وفي أنشطة إلزامية أخرى. باختصار، تختلف ظروف الحياة بالنسبة إليهم.
إلى ذلك، تعبّر أمّ غسّان عن مخاوفها من أن "أكبر هنا ويُرمى بي في مأوى عجزة. هذا أمر مرعب بالنسبة إلي. أفضّل الموت عند باب البيت في الحيّ الذي أقيم فيه في جبل لبنان...". ويقاطعها ابنها قائلاً: "أنت تهينينني يا أمي. من قال إنني سأسمح بانتقالك إلى دار للمسنين؟".
وبعيداً عن مسامع والدته، يقرّ غسان بأن تأقلمها مع الحياة في الدنمارك صعب. وهو يخشى عليها من أن "تصاب بأمراض، نتيجة عزلتها وصعوبة التعايش مع محيطها. هي لا تتكلم إلا العربية، وحتى في السوبرماركت تنهر البائعات بالعربية. وهو ما يسبّب إحراجاً لها". لذا يبحث مع إخوته عن حلّ، لإعادتها إلى لبنان.
إقرأ أيضاً: أوروبا قدر اللاجئين.. رغماً عنهم