تستغرب المظلة الحديدية الكبيرة فوق موقع "أم الرصاص". أو فوق جزء من الموقع. الآثار تلوح لك ما إن تدخل الموقع المسجَّل على لائحة اليونسكو للتراث العالمي. المدى الأجرد يُبْرز الموقع. لا شيء يحجبه من أي جانب. ليس ذلك بسبب تدابير حكومية، بل لأن التزاحم البشري على الأرض والسكنى لم يبلغ هذه المنطقة البعيدة عن عمان نحو 60 كلم جنوباً.
ليست هناك أبنية كثيرة قائمة في "أم الرصاص". من بين مدن "طريق التجارة" القديم (طريق الإمبراطور تراجان، طريق الملوك، الطريق السلطاني، سمِّه ما شئت فكل هذه الأسماء صالحة) هذا الموقع هو الأكثر تضرراً. حجارة المنشآت والبيوت في المدينة الأثرية مكومة فوق بعضها بعضاً. تبدو من البعيد رجوماً من الحجارة التي لا شكل لها لولا تلك الأقواس الثلاثة التي لا تزال قائمة. بيد أن هذا من بعيد. هذا وأنت تمشي في طريق ممهد، وسط أرض ضاربة في الجفاف والصفرة.
أما عندما تقترب من هذه المظلة الحديدية، أو الهنغار المفتوح من كل الجوانب، فهناك ما ينتظرك ولم توطد النفس على لقائه: أرضيات فسيفسائية يسطع فيها الأخضر والبني لم تنل منها يد الخراب أو العبث كثيراً. تفهم سبب وجود هذا الهنغار الكبير مفتوح الجوانب. إنه لحماية الفسيفساء من تقلبات الطقس وذرق الطيور وما تجلبه الرياح من مخلفات الاستهلاك البشري.
خارطة الأراضي المقدسة
أثبتت الحفريات التي تمت داخل أسوار المدينة أن أم الرصاص كانت مأهولة بالسكان منذ العصر الحديدي الثاني (السادس قبل الميلاد) حتى الخلافة العباسية. تعاقبت على موقع هذه البلدة – المدينة التي تقع في منطقة زراعية على حافة الصحراء أطوار وحكام وديانات. فمن الأنباط إلى الرومان إلى البيزنطيين إلى الأمويين فالعباسيين لم تنقطع الحياة هنا. بل شهدت في الفترة الأموية ازدهاراً بسبب وجود مجتمع مسيحي عربي أصاب ثروة وغنى من التجارة. حظيت أم الرصاص، أكثر من غيرها، من بلدات ومواقع طريق التجارة القديم، باهتمام الآثاريين الأجانب، لأن اعتقاداً ساد في أوساط لاهوتية غربية أن أكوام الحجارة هذه كانت هي "كاسترون ميفعه" المذكورة في الكتاب المقدس. كان ينبغي أن تزور موقع أم الرصاص بعثات غربية بدأت في عام 1807 حتى عام 1986 ليتأكد، لتلك البعثات، أن أم الرصاص هي فعلا "كاسترون ميفعه".
فقبل اكتشاف الأرضيات الفسيفسائية، وخاصة التابعة لكنيسة القديس إسطفان وكنيسة الأسود، كان صعباً تحديد اسمها القديم، أما بعد ذلك فتكفلت الأرضية الفسيسفائية نفسها بتوضيحه على أكمل وجه، فقد كان اسمها مكتوباً بالحرف اليوناني عليها، بحسب ما توصلت إليه البعثة الأخيرة للآباء الفرنسيسكان بالتعاون مع وزارة الآثار الأردنية.
الحامية
أقيمت "أم الرصاص"، مثل معظم المدن والبلدات الأردنية التاريخية، على طريق التجارة القديم. كانت حامية عسكرية في بدايتها، كما يوضح ذلك اسمها "كاسترون ميفعه" (ويعني حصن ميفعة باليونانية) ثم تطوَّرت لاحقاً لتصبح مدينة لها شأنها في تاريخ أديان المنطقة، وخصوصاً المسيحية والإسلام. وليست بلا دلالة أن تضم هذه البلدة التي صارت مدينة كبيرة نحو ست عشرة كنيسة. اتسمت مسيحية أم الرصاص بالرهبنة. هذا ما يعكسه أكثر من بناء قائم ومندثر في موقع المدينة. كما تنتسب مسيحيتها إلى المذهب النسطوري الذي شاع في بلاد الشام، ومن أبرز أعلامه الراهب بحيرا الذي يقال إنه تنبأ بنبوّة النبي العربي، بحسب بعض الروايات التاريخية العربية، وأهمها للطبري. كنت أعرف أن قصة الراهب بحيرا والنبي محمد حدثت في مدينة بصرى الشام عندما كان الرسول في يفاعته. ثمة من يقول إنه كان في التاسعة من عمره، وثمة من يقول الثانية عشرة.
لكن الحماسة الأردنية تعطي القصة موقعين اثنين في الأردن. الأول هو أم الرصاص، أما الثاني ففي منطقة الصفاوي، شرقي الأردن، بالقرب من الحدود العراقية، حيث توجد "شجرة البقعاوية" التي يقال إن اللقاء بين محمد الفتى الصغير والراهب بحيرا جرى هناك بحضور عمه أبو طالب وعدد من شيوخ قريش وتجارها. هناك تشكيك عند بعض المؤرخين ورجال الدين العرب بقصة الراهب بحيرا فينفونها تماماً، ولكن هناك فريقاً من رواة الحديث والمؤرخين ورجال الدين يؤكدونها وإن لم يتفقوا على مكان اللقاء. للنفي صلة بما يقوله بعض المستشرقين إن الراهب بحيرا هو الذي لقَّن الفتى محمد، في لقاءات كهذه، مبادئ الدين الإسلامي. من الذين يدافعون بقوة عن حقيقة اللقاء الشيخ الألباني الذي يقول إن حادثة يرويها رواة ثقات بحجم الترمذي، نقلا عن صحابي مثل أبي موسى الأشعري كيف لا تكون صحيحة، ويرى أنه لا ينبغي التنصل منها لمجرد أنها استخدمت على نحو مغاير من قبل بعض المستشرقين. ولكن حتى إن سلمنا بصدقية اللقاء، فليس هناك دليل مادي على أنه جرى في أم الرصاص.
عبقرية فنية
إن كان لأم الرصاص (ميفعة) أهمية لدى أوساط لاهوتية مسيحية، فلها عند المسلمين أهمية لا تقل عن ذلك، أو هذا ما ينبغي. تعكس أرضية كنيسة القديس اسطفان الفسيفسائية عبقرية فنية وتقنية بحسب تعليل اليونسكو ضمها إلى قائمة أوابدها العالمية. وتضيف اليونسكو سبباً آخر لفرادة هذا الموقع الأردني، فإلى عبقرية أعماله الفنية فهو يرتبط بانتشار التوحيد في المنطقة بما في ذلك الدين الإسلامي.
يكفي القول إن كنيسة القديس اسطفان بنيت في الفترة العباسية، وإن التعبّد المسيحي لم ينقطع في أم الرصاص رغم سيطرة الحكم الإسلامي، أو المسلمين، على كامل منطقة بلاد الشام. هذا مثال مهم لعالم اليوم الذي ترتدي فيه الصراعات السياسية وحروب المصالح مسوحاً دينياً. فإذا كان المسلمون الأوائل لم يروا ضيراً، ولم يجدوا غرابة، في أن يمارس أصحاب "الكتاب" عبادتهم بل وأن يبنوا معابدهم، وهم على بعد سنين قليلة من انطلاق الإسلام، فكيف يفعل مسلمو اليوم؟ كيف تدك المعابد والأديرة وتسوَّى الآثار بالأرض باسم الإسلام؟ هذه ليست قضية ثانية بل هذه هي القضية.
اقرأ أيضاً: فن الزخارف الدمشقية يجد موطئ قدم في الأردن
ليست هناك أبنية كثيرة قائمة في "أم الرصاص". من بين مدن "طريق التجارة" القديم (طريق الإمبراطور تراجان، طريق الملوك، الطريق السلطاني، سمِّه ما شئت فكل هذه الأسماء صالحة) هذا الموقع هو الأكثر تضرراً. حجارة المنشآت والبيوت في المدينة الأثرية مكومة فوق بعضها بعضاً. تبدو من البعيد رجوماً من الحجارة التي لا شكل لها لولا تلك الأقواس الثلاثة التي لا تزال قائمة. بيد أن هذا من بعيد. هذا وأنت تمشي في طريق ممهد، وسط أرض ضاربة في الجفاف والصفرة.
أما عندما تقترب من هذه المظلة الحديدية، أو الهنغار المفتوح من كل الجوانب، فهناك ما ينتظرك ولم توطد النفس على لقائه: أرضيات فسيفسائية يسطع فيها الأخضر والبني لم تنل منها يد الخراب أو العبث كثيراً. تفهم سبب وجود هذا الهنغار الكبير مفتوح الجوانب. إنه لحماية الفسيفساء من تقلبات الطقس وذرق الطيور وما تجلبه الرياح من مخلفات الاستهلاك البشري.
خارطة الأراضي المقدسة
أثبتت الحفريات التي تمت داخل أسوار المدينة أن أم الرصاص كانت مأهولة بالسكان منذ العصر الحديدي الثاني (السادس قبل الميلاد) حتى الخلافة العباسية. تعاقبت على موقع هذه البلدة – المدينة التي تقع في منطقة زراعية على حافة الصحراء أطوار وحكام وديانات. فمن الأنباط إلى الرومان إلى البيزنطيين إلى الأمويين فالعباسيين لم تنقطع الحياة هنا. بل شهدت في الفترة الأموية ازدهاراً بسبب وجود مجتمع مسيحي عربي أصاب ثروة وغنى من التجارة. حظيت أم الرصاص، أكثر من غيرها، من بلدات ومواقع طريق التجارة القديم، باهتمام الآثاريين الأجانب، لأن اعتقاداً ساد في أوساط لاهوتية غربية أن أكوام الحجارة هذه كانت هي "كاسترون ميفعه" المذكورة في الكتاب المقدس. كان ينبغي أن تزور موقع أم الرصاص بعثات غربية بدأت في عام 1807 حتى عام 1986 ليتأكد، لتلك البعثات، أن أم الرصاص هي فعلا "كاسترون ميفعه".
فقبل اكتشاف الأرضيات الفسيفسائية، وخاصة التابعة لكنيسة القديس إسطفان وكنيسة الأسود، كان صعباً تحديد اسمها القديم، أما بعد ذلك فتكفلت الأرضية الفسيسفائية نفسها بتوضيحه على أكمل وجه، فقد كان اسمها مكتوباً بالحرف اليوناني عليها، بحسب ما توصلت إليه البعثة الأخيرة للآباء الفرنسيسكان بالتعاون مع وزارة الآثار الأردنية.
الحامية
أقيمت "أم الرصاص"، مثل معظم المدن والبلدات الأردنية التاريخية، على طريق التجارة القديم. كانت حامية عسكرية في بدايتها، كما يوضح ذلك اسمها "كاسترون ميفعه" (ويعني حصن ميفعة باليونانية) ثم تطوَّرت لاحقاً لتصبح مدينة لها شأنها في تاريخ أديان المنطقة، وخصوصاً المسيحية والإسلام. وليست بلا دلالة أن تضم هذه البلدة التي صارت مدينة كبيرة نحو ست عشرة كنيسة. اتسمت مسيحية أم الرصاص بالرهبنة. هذا ما يعكسه أكثر من بناء قائم ومندثر في موقع المدينة. كما تنتسب مسيحيتها إلى المذهب النسطوري الذي شاع في بلاد الشام، ومن أبرز أعلامه الراهب بحيرا الذي يقال إنه تنبأ بنبوّة النبي العربي، بحسب بعض الروايات التاريخية العربية، وأهمها للطبري. كنت أعرف أن قصة الراهب بحيرا والنبي محمد حدثت في مدينة بصرى الشام عندما كان الرسول في يفاعته. ثمة من يقول إنه كان في التاسعة من عمره، وثمة من يقول الثانية عشرة.
لكن الحماسة الأردنية تعطي القصة موقعين اثنين في الأردن. الأول هو أم الرصاص، أما الثاني ففي منطقة الصفاوي، شرقي الأردن، بالقرب من الحدود العراقية، حيث توجد "شجرة البقعاوية" التي يقال إن اللقاء بين محمد الفتى الصغير والراهب بحيرا جرى هناك بحضور عمه أبو طالب وعدد من شيوخ قريش وتجارها. هناك تشكيك عند بعض المؤرخين ورجال الدين العرب بقصة الراهب بحيرا فينفونها تماماً، ولكن هناك فريقاً من رواة الحديث والمؤرخين ورجال الدين يؤكدونها وإن لم يتفقوا على مكان اللقاء. للنفي صلة بما يقوله بعض المستشرقين إن الراهب بحيرا هو الذي لقَّن الفتى محمد، في لقاءات كهذه، مبادئ الدين الإسلامي. من الذين يدافعون بقوة عن حقيقة اللقاء الشيخ الألباني الذي يقول إن حادثة يرويها رواة ثقات بحجم الترمذي، نقلا عن صحابي مثل أبي موسى الأشعري كيف لا تكون صحيحة، ويرى أنه لا ينبغي التنصل منها لمجرد أنها استخدمت على نحو مغاير من قبل بعض المستشرقين. ولكن حتى إن سلمنا بصدقية اللقاء، فليس هناك دليل مادي على أنه جرى في أم الرصاص.
عبقرية فنية
إن كان لأم الرصاص (ميفعة) أهمية لدى أوساط لاهوتية مسيحية، فلها عند المسلمين أهمية لا تقل عن ذلك، أو هذا ما ينبغي. تعكس أرضية كنيسة القديس اسطفان الفسيفسائية عبقرية فنية وتقنية بحسب تعليل اليونسكو ضمها إلى قائمة أوابدها العالمية. وتضيف اليونسكو سبباً آخر لفرادة هذا الموقع الأردني، فإلى عبقرية أعماله الفنية فهو يرتبط بانتشار التوحيد في المنطقة بما في ذلك الدين الإسلامي.
يكفي القول إن كنيسة القديس اسطفان بنيت في الفترة العباسية، وإن التعبّد المسيحي لم ينقطع في أم الرصاص رغم سيطرة الحكم الإسلامي، أو المسلمين، على كامل منطقة بلاد الشام. هذا مثال مهم لعالم اليوم الذي ترتدي فيه الصراعات السياسية وحروب المصالح مسوحاً دينياً. فإذا كان المسلمون الأوائل لم يروا ضيراً، ولم يجدوا غرابة، في أن يمارس أصحاب "الكتاب" عبادتهم بل وأن يبنوا معابدهم، وهم على بعد سنين قليلة من انطلاق الإسلام، فكيف يفعل مسلمو اليوم؟ كيف تدك المعابد والأديرة وتسوَّى الآثار بالأرض باسم الإسلام؟ هذه ليست قضية ثانية بل هذه هي القضية.
اقرأ أيضاً: فن الزخارف الدمشقية يجد موطئ قدم في الأردن