في غياب عملية تأريخ دقيقة لمسارات الشعر الحديث، لا يزال المتداوَل الذي كرّسه النقّاد والصحافة الثقافية (اللبنانية أساساً) هو أن منعطف الدخول العربي إلى الحداثة الشعرية كان من خلال مجلة "شعر" التي أسّسها الشاعر اللبناني يوسف الخال سنة 1957 في بيروت.
الحداثة، باعتبارها حالة ثقافية لا تعرف الجمود، كان من الممكن أن تتكلّس في صيغتها الشعرية عربياً في تلك السنوات، كما حدث مع مجالات أخرى مثل الفكر والتكنولوجيا، غير أن مشروع "شعر" عرف، بسرعة، موجات وأصواتاً متتابعة ومختلفة، كان أحد أبرز وجوهها الشاعر اللبناني أنسي الحاج (1937 – 2014) الذي "يحتفل العالم" اليوم بعيد ميلاده التاسع والسبعين، بعد المبادرة التي قام بها محرّك "غوغل"، صباح اليوم، حين وضع صورته على شارة البحث.
القصيدة الحديثة ظلّت مفهوماً شبه غامض لمتابعي الشعر، حيث لم يكن ممكناً مسك تعريف أو تصوّر عام عنها خارج شكلياتها من خلال ما ينشر في المجلات.
1960، لعلها السنة التي من الممكن أن نقول بأن الفكرة تجسّمت أخيراً في مجموعة شعرية، حين نشر الحاج ديوان "لن"، وفي بقية مشواره سيطبّق خاصية التجاوز في كتاباته حتى أنه من الصعب إيجاد علاقة أسلوبية مع أعمال لاحقة مثل "ماضي الأيام اللاحقة" (1965) و"الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" (1975) وصولاً إلى "خواتم".
في حالة الحاج، كان الصحافي هو القائم على تغذية الشاعر، إذ تبلورت ثقافته على إيقاع عمله في جرائد يومية، كان أبرزها "النهار" التي أشرف عليها لسنوات، وهي عناصر أمّدته بأفق قد لا نجده لدى كثيرين من مجايليه ممن حصروا معارفهم وتطلّعاتهم في الشعر وحلقاته. ومن جانب آخر، تبدو شخصيته وقد تجاوزت صورة الشاعر إلى مثقّف فاعل في الحياة.
سنتان مرّتا على رحيل الشاعر اللبناني. كثير من الاحتفاء هنا وهناك، ومن ذكريات الأصدقاء والقرّاء. مركبة الشعر الحديث حطّت في مرافئ بعيدة، لكنها تعرف من أين انطلقت ومن نفخ في الريح لكي تتقدّم، بعضهم فعل ذلك بسلطوية وأبوية.. وبعضهم بكثير من الأريحية.