وبرزت الأنفاق العسكرية كظاهرة فلسطينية لافتة للاهتمام في العدوان الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة في 2014، عندما استخدمتها المقاومة، خصوصاً "كتائب القسام" الذراع العسكرية لحركة "حماس" في أكثر من عملية داخل العمق الإسرائيلي، منها عمليات اقتحام وتسلل وعملية أسر الضابط في جيش الاحتلال هدار غولدن شرقي مدينة رفح جنوب القطاع.
لكن قبل ذلك، ومع دخول الحصار الإسرائيلي على القطاع عام 2006 حيز التنفيذ، بدأ الفلسطينيون يحفرون أنفاقاً تجارية على الحدود مع الأراضي المصرية لتهريب السلع والبضائع الضرورية، في ظل إطباق إسرائيل حصارها وغياب مقومات الحياة الداخلية. وسرعان ما أصبحت هذه الأنفاق شريان حياة لغزة.
قبل ذلك بسنوات كانت هناك أنفاق على الحدود مع مصر، لكنها كانت تستخدم في تهريب الممنوعات. وكانت عليها عمليات رقابة مشددة وتعقب، ولم يكن عددها لافتاً ولا كبيراً. كذلك كانت تُدار بسرية تامة من قبل المهربين في الجانبين الفلسطيني والمصري.
وفي تلك الحدود، أوجد المقاومون الفلسطينيون أنفاقاً لتهريب الأسلحة والمعدات القتالية والمواد الأولية التي يتم استخدامها في عمليات تطوير القدرات العسكرية، وهي بمواصفات أعقد من تلك التي تستخدم لنقل البضائع، لكن الحملة المصرية في عام 2014 أغلقت غالبية هذه الأنفاق وأحالتها إلى ركام.
أما أنفاق المقاومة، والتي برعت في حفرها "كتائب القسام"، فقد استخدمت في فترات مختلفة قبل عدوان 2014، لكنها لم تكن بالزخم الذي حصل في ذلك العام، والذي نفذت من خلاله المقاومة سلسلة عمليات أربكت حسابات الاحتلال الإسرائيلي وجعلته يتخبط ويبحث عن حلول لها.
عمل قاسٍ
ويتناوب العشرات من المقاومين الفلسطينيين في عملية الحفر على مدار الساعة وبنظام المناوبات، وهي التي تبدأ في بعض الأحيان من مناطق مكشوفة، لكن هذه المناطق، والتي يطلق عليها "عين النفق" يتم إغلاقها والتخلص منها في وقت لاحق، وتكون المقاومة قد صنعت للنفق عيناً أخرى أو حتى عيوناً متعددة في أماكن خارج إمكانية الوصول لها بسهولة.
وتمر عمليات الحفر بتعقيدات كبيرة للغاية، فأرض قطاع غزة بين رملية لا تصلح لحفر الأنفاق، وبين طينية قاسية يحتاج حفر المتر الواحد منها إلى أيام وقدرات لا تتوفر في كثير من الأحيان، ويتم التغلب على المعيقات التي تنتج عن المفاجآت خلال الحفر.
ويتم الحفر يدوياً وبأدوات بدائية تماماً، فاستخدام معدات للحفر صعب وشبه مستحيل، ولذلك فإنّ التكلفة المادية للنفق الواحد تكون كبيرة جداً، ولا تصلح كل مناطق القطاع المحاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة في هذا الأمر، إذ إنّ بعضها لا يوجد به مستوطنون أو مواقع عسكرية.
واستشهد عشرات المقاومين الفلسطينيين وأصيب آخرون بجراح بينها خطرة وحالات شلل وآلام في المفاصل نتيجة الانهيارات التي حدثت خلال العمل في الأنفاق. ويعاني العاملون في الأنفاق من صعوبات في التنفس داخلها، ومشاكل صحية كبيرة، وفق شهادات بعضهم وتصريحات لقيادة المقاومة في أوقات سابقة.
وفي بعض الأحيان، تقوم قوات الاحتلال الإسرائيلي بإطلاق الغاز السام في "عيون" الأنفاق المكتشفة على الحدود مع غزة، في محاولة لزيادة عدد الضحايا، إن كان هناك من يوجد داخل النفق، ولمنع إعادة العمل في النفق في وقت لاحق.
ويقول مقربون من المقاومة لـ"العربي الجديد"، إنّ عناصر المقاومة الذين يعملون في حفر الأنفاق لا يعرفون تفاصيلها الداخلية، ويحضرون إليها في كثير من الأوقات بشكل سري ودون معرفتهم بالمكان الذي دخلوا أو خرجوا منه، لضمان السرية وعدم افتضاح أمر النفق.
ولدى كل فصيل مسلح، تحديداً "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، يوجد وحدة للأنفاق تكون مهمتها الحفر وترتيب جدرانه الداخلية وتمتينها ومن ثم تسليمه حال جهوزيته لقيادة المناطق والتي تتولّى المسؤولية عنه.
وباتت في قطاع غزة أخيراً أنفاق لإطلاق الصواريخ توضع فيها الراجمات لمنع الاحتلال الإسرائيلي من تعقب هذه الصواريخ، وتكون مربوطة بمخازن للمقاومة، يتم إمداد المنصات فيها بالصواريخ من تحت الأرض دون الحاجة إلى العمل فوق الأرض، ما قلل من عمليات الاستهداف الإسرائيلي للمقاومين الذين يعملون في الوحدات الصاروخية في الأعوام الأربع الأخيرة.
وقبل ذلك بسنوات، كانت المقاومة تستخدم أنفاقاً صغيرة تسمى "وصلات" يتم حفرها بشكل يمكن المقاوم من دخول النفق منفرداً وزاحفاً لتغيير مكان عبوة ناسفة، لاستهداف قوات الاحتلال الإسرائيلي المتوغلة في المناطق الحدودية أو داخل التجمعات السكنية.
عمليات من الأنفاق
في عام 2004 نفذت كتائب القسام تفجيراً لموقع عسكري إسرائيلي على حاجز المطاحن قرب مجمع مستوطنات "غوش قطيف" (تم تفكيك المستوطنات خلال الانسحاب الإسرائيلي في 2005)، حيث تم حفر نفق بطول 495 متراً وبعمق 80 سنتمراً فقط تحت الموقع العسكري المسمى "محفوظة" وتفخيخه ومن ثم تدميره على الجنود.
وفي 25 حزيران/ يونيو 2006 أسرت ثلاثة فصائل فلسطينية، هي كتائب القسام، وألوية الناصر صلاح الدين التابعة للجان المقاومة الشعبية، وجيش الإسلام، الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، في عملية سميت بالوهم المتبدد، من خلال نفق إلى الشرق من مدينة رفح.
وخلال عدوان 2014، نفذت كتائب القسام سلسلة عمليات تسلل خلف خطوط الاحتلال الإسرائيلي من خلال الأنفاق، كان أبرزها اقتحام موقع أبو مطيبق العسكري إلى الشرق من وسط القطاع، وموقع ناحل عوز العسكري شرقي مدينة غزة، وموقع 16 التابع للمخابرات الإسرائيلية قرب معبر بيت حانون ـ إيرز شمال القطاع.
الملاحقة الإسرائيلية
في نهاية عام 2015، وعقب الضجة الكبيرة التي أحدثتها العمليات التي نفذتها المقاومة خلال العدوان في 2014، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي طرح مشروع لإقامة جدار خرساني أرضي على طول الحدود على القطاع لمحاربة أنفاق المقاومة.
ومرّ المشروع الإسرائيلي بعدد من السجالات الداخلية في إسرائيل، نتيجة تكلفته العالية، ورؤية البعض في الاحتلال أنه بلا جدوى، خصوصاً في ظل قدرة المقاومة على المناورة في الأنفاق التي تعد بدائية بكل الأحوال مقارنة بقدرات جيش الاحتلال.
واكتشفت قوات الاحتلال الإسرائيلي عدداً من الأنفاق، بعضها أعلن عنه حديثاً لكن اكتشافه كان قديماً، وساعدت الظروف الجوية، تحديداً السيول والأمطار في كشف بعض الأنفاق، لكن الاحتلال كان يحيل الأمر إلى قدراته التكنولوجية.
ويقوم الاحتلال الإسرائيلي بـ"بروباغندا" إعلامية كبيرة عند اكتشاف الأنفاق وذلك في رسالة داخلية لتطمين المجتمع الإسرائيلي الذي يعيش حالة من القلق نتيجة هذه الأنفاق وإدراكه لخطورتها. وعادة ما يضخ الجيش الإسرائيلي كميات كبيرة من الإسمنت في الأنفاق المكتشفة، ومن ثم تفجيرها، لمنع المقاومة من استخدامها مرة أخرى.
غير أنّ المقاومة الفلسطينية التي تقر بأنّ ما يجري على الحدود من ناحية الاحتلال سيعقد من عملها، تؤكد أنها قادرة على تجاوز أي عقبات من شأنها تصعيب مهمة تعقب أنفاقها، وحتى الوصول إلى تجاوز عقبة الجدار التحت والفوق أرضي على الحدود.