تواصلت تجربتي مع القارئ الإلكتروني، وصرت غير قادر عن الابتعاد عنه، كحالي مع الآيفون. يكفي أن أتسكع في غابة كتب أمازون، أو غوغول بوكس Google books، أو غاليكا Gallica: المكتبة الفرنسية الرقمية، أو إنترنت أرشيف Internet Archive، لأجد كتاباً مجانياً أشتهيه قبل النوم، بين ملايين الكتب الكلاسيكية المجانية، ولأنزله، للقراءة، في جهازي.
ثم لزمني أن أغيّر عاداتي، أنا الذي أميل لاستعمال القلم الرصاص لوضع بضعة "شخاطيط" تحت الجمل التي أحبها في الكتاب الورقي: يسمح الكندل بعمل شريط ملون عليها. كان لدي نوعان من "الشخاطيط" في الكتاب الورقي، فصارت لي أشرطة بلونين: لون للتعابير الجميلة في النص، وآخر لفقرات الأفكار الثاقبة.
لكني، أعترف، لم أشتر كتاباً جديداً لكاتب معاصر على الكندل إلا مرّتين! ربما لأني ما زلت أعتقد، خطأً، أن الكتاب لن يكون ملكي إلا إذا كان بين يدي لحماً وشحماً، أي: غلافاً وورقاً. ما زلت بعقلية مواطن المجتمع "الاستهلاكي"، وليس مواطن المجتمع "الاتصالي".
اقرأ أيضًا: القراءة من دون شاشة ليست قراءة
صحيح أنه حدث ذات مرة أن سحبت أمازون من مكتبتها كتاباً وُجد فيه خطأ مطبعي، واعتذرت بإيميل لمن اشتروا الكتاب. وجد هؤلاء أجهزتهم الإلكترونية من دون الكتاب بين عشيّة وضحاها، وإيميلاً يقول لهم إن ثمّة خطأ سيصحح، وستُبعث لهم نسخة جديدة.
في البدء صدمني أن يختفي من جهاز إنسانٍ، كتابٌ اشتراه، ثم أعجبني أنه يمكن استعادة ثمنه. تساءلت: كم عدد الكتب الورقية المشحونة بالأخطاء المطبعية أو المعرفية أو التنقيطية التي بودي إما استعادة ثمنها بعد قراءة صفحتها الأولى، أو أرميها إلى سلّة المهملات.
بطبيعة الحال، في حال وجود خطأ في الكتاب الورقي، يلزم على دار نشره إعادة طبعه كلية لتصحيح الخطأ، بينما تكفي دقيقة واحدة لتصحيح الخطأ في الكتاب الإلكتروني، وذلك بتصحيح النص الرقمي في ناشر إلكتروني مثل Word، ثم إعادة إرساله إلكترونيًاً بالطبعة الجديدة لكل من اشتراه.
اقرأ أيضًا: كيف تشيد المعاجم التاريخية الحديثة؟
ذلك ممكن جداً بفضل عبقرية النص الرقمي؛ أعظم اكتشاف للإنسان منذ فجر التاريخ.
ما يزعجني أيضاً - علي أن أعترف - في حال القراءة الإلكترونية، هو حين أرى، في الرحلات الجوية الغربية معظم الناس يحدّقون في "كنادلهم"، لا أدري ما يقرأون. أسترجع ذلك الزمان الشفاف السحيق حين كنت "أتلصص" على عناوين الكتب التي يقرأها ركّاب الطائرات، وأطلق بيني وبين نفسي، نظريات حول العلاقة بين شخصياتهم، أشكالهم، والكتب التي يقرأونها.
لكن أكثر ما يزعجني، حين أجد، في رحلات جوية غربية تحملق فيها الأغلبية الساحقة من الناس بكنادلهم طوال الرحلة، فيما لا أرى قارئاً إلكترونياً واحداً بيد مواطن عربي في رحلة جوية عربية.
سيقول هنا أحدهم إن السبب، خلو كندل من لوحة المفاتيح بالعربية، وعدم امتلاك جهازها كتباً عربية للبيع، و"ذلك لإضعاف لغة القرآن من قبل الغرب"، كما قرأت في مدونة عربية.
ينسى صاحب الرأي أنه يطبع نصه على ناشر إلكتروني أمريكي (كناشر ميكروسوفت أو آبل) يسمح بالنشر العربي، وفي مدونة صنعها الغرب تسمح باستخدام العربية. وإذا فكّر بالترجمة الآلية إلى العربية فسيجد غوغل وغيره من الوسائل الغربية.
اقرأ أيضًا: من كتب غلب ومن رقمن هيمن
جميعها شركات لا تبحث إلا عن الربح. وعندما تصنع لك ناشراً إلكترونياً بالعربية، فليس لـ "إعلاء لغة القرآن"، ولكن لأنها ستبيع لك هذا الناشر وتكسب مقابل ذلك.
وعندما لا تضع إحدى الشركات خدمة بيع كتب بالعربية، فلأنها تعرف أن ذلك غير مربح لها في بلدان تجتاحها الأميّة، ولا يشتري سكانها الكتاب الورقي إلا فيما ندر. فكيف بالكتاب الإلكتروني، وبواسطة بطاقة مصرفية لا يمتلكها أحد هناك تقريباً؟
الأهم: بلداننا العربية هي البلدان الوحيدة التي لا تمتلك لغتُها "قارئاً ضوئياً" O.C.R، يحوّل النص الورقي إلى نص رقمي، رغم الأهمية المركزية لذلك اليوم، التي لا يمكن لكندل أو لأي قارئ إلكتروني، تطوير خدمة للغة لا تمتلك جهازاً مماثلاً.
لأذكّر: القارئ الضوئي برنامج يسمح عند عمل سكانير Scanner لصفحة كتاب بتحويل الصفحة إلى نص رقمي، كما لو كان قد طبِع بناشر إلكتروني كـ Word، وليس إلى مجرد صورة، على غرار صور الـ PDF.
لا مجال للمقارنة بين النص الرقمي وصورته: الأول يمكن التعامل معه ومعالجته كومبيوترياً: معرفة كلماته، ترجمتها، نطقها، تكبير حجمها. فيما صورة الصفحة بـ "سكانير" بدون O.C.R، في أعين الكمبيوتر، ليست أكثر من مجرد شخاطيط.
معظم الكتب التي يقدمها القارئ الإلكتروني تم تحويلها، بفضل القارئ الضوئي للغة الكتاب، من كتب ورقية إلى نصوص رقمية كما لو طبعت بناشر إلكتروني. ومعظمها كتب ظهرت قبل الكمبيوتر.
بطبيعة الحال، يمكن إقحام كتاب عربي بصورة الـ PDF في الكندل، لكن لن تكون له خصائص الكتب الرقمية التي يعرضها القارئ الإلكتروني وابتُكر من أجلها.
كلما أتذكّر، أي معظم الوقت، عدم امتلاك لغتنا لهذا القارئ الضوئي، الذي لم أتوقف عن القول بأهميته المفصلية اللازمة لدخول العربية، العصر الرقمي، أتذكّر أحد الأغنياء العرب الذي عرض على عارضة أزياء سويدية شهيرة مليون دولار لتتناول العشاء معه فقط، ورفضت ذلك!
كان بإمكانه دخول التاريخ لو قدّم هذا المبلغ لفريق هندسي، يرافقهم باحثان أو ثلاثة، لتصميم هذا القارئ الضوئي.
لا يمكن أن يكون المرء غيوراً على لغة الضاد وهو يرى هذا النقص المهين لها، الذي لم تعمل على ردمه مؤسسة مدنية أو دينية أو دولة أو إنسان، رغم تبذير الملايين في مشاريع تافهة، أو من دون أهمية بهذا المقاس.
لن تتأخر شركة أمازون، وغيرها ممن لا يهمهم غير الربح، ثانية واحدة بالطبع عن إضافة العربية لخدماتهم إذا ما وُجِدَ قارئ ضوئي للعربية. لكن إدخال العربية كخدمة، في ضوء غيابه، أشبه بإهداء جهاز بيانو لامرئ مقطوع اليدين.
في بلدان اللغات المهمة والشعوب الناهضة، ثمّة روبوتات تحوّل ليل نهار، منذ عقود، كل الكتب والمطبوعات الورقية، لا سيما التي ظهرت طوال القرون التي سبقت الكمبيوتر، إلى نصوص رقمية.
ومنذ عقود لم تتوقف المشاريع البحثية عن دراسة هذه النصوص لألف غرض وغرض: تهم المؤرخين وعلماء الاجتماع لدراسة ظواهر تاريخية واجتماعية ومعرفية متنوعة في حياة شعوبهم، بعضها شديدة الجوهرية. وتهم علماء اللغة لدراسة تاريخ مفردات اللغة، والتعرّف الآلي على هذا الكاتب أو ذاك من خصائص مفرداته وأسلوبه، وتحديد النصوص المشكوكِ من كتابتها، ولأغراضٍ مهمة كثيرة أخرى.
عدم امتلاك العربية لقارئ ضوئي يعد ثاني أهم أمراضِها الكبرى في العصر الرقمي، بعد المرض المستديم الأول: غيابها المعرفي.
لكني، أعترف، لم أشتر كتاباً جديداً لكاتب معاصر على الكندل إلا مرّتين! ربما لأني ما زلت أعتقد، خطأً، أن الكتاب لن يكون ملكي إلا إذا كان بين يدي لحماً وشحماً، أي: غلافاً وورقاً. ما زلت بعقلية مواطن المجتمع "الاستهلاكي"، وليس مواطن المجتمع "الاتصالي".
اقرأ أيضًا: القراءة من دون شاشة ليست قراءة
صحيح أنه حدث ذات مرة أن سحبت أمازون من مكتبتها كتاباً وُجد فيه خطأ مطبعي، واعتذرت بإيميل لمن اشتروا الكتاب. وجد هؤلاء أجهزتهم الإلكترونية من دون الكتاب بين عشيّة وضحاها، وإيميلاً يقول لهم إن ثمّة خطأ سيصحح، وستُبعث لهم نسخة جديدة.
في البدء صدمني أن يختفي من جهاز إنسانٍ، كتابٌ اشتراه، ثم أعجبني أنه يمكن استعادة ثمنه. تساءلت: كم عدد الكتب الورقية المشحونة بالأخطاء المطبعية أو المعرفية أو التنقيطية التي بودي إما استعادة ثمنها بعد قراءة صفحتها الأولى، أو أرميها إلى سلّة المهملات.
بطبيعة الحال، في حال وجود خطأ في الكتاب الورقي، يلزم على دار نشره إعادة طبعه كلية لتصحيح الخطأ، بينما تكفي دقيقة واحدة لتصحيح الخطأ في الكتاب الإلكتروني، وذلك بتصحيح النص الرقمي في ناشر إلكتروني مثل Word، ثم إعادة إرساله إلكترونيًاً بالطبعة الجديدة لكل من اشتراه.
اقرأ أيضًا: كيف تشيد المعاجم التاريخية الحديثة؟
ذلك ممكن جداً بفضل عبقرية النص الرقمي؛ أعظم اكتشاف للإنسان منذ فجر التاريخ.
ما يزعجني أيضاً - علي أن أعترف - في حال القراءة الإلكترونية، هو حين أرى، في الرحلات الجوية الغربية معظم الناس يحدّقون في "كنادلهم"، لا أدري ما يقرأون. أسترجع ذلك الزمان الشفاف السحيق حين كنت "أتلصص" على عناوين الكتب التي يقرأها ركّاب الطائرات، وأطلق بيني وبين نفسي، نظريات حول العلاقة بين شخصياتهم، أشكالهم، والكتب التي يقرأونها.
لكن أكثر ما يزعجني، حين أجد، في رحلات جوية غربية تحملق فيها الأغلبية الساحقة من الناس بكنادلهم طوال الرحلة، فيما لا أرى قارئاً إلكترونياً واحداً بيد مواطن عربي في رحلة جوية عربية.
سيقول هنا أحدهم إن السبب، خلو كندل من لوحة المفاتيح بالعربية، وعدم امتلاك جهازها كتباً عربية للبيع، و"ذلك لإضعاف لغة القرآن من قبل الغرب"، كما قرأت في مدونة عربية.
ينسى صاحب الرأي أنه يطبع نصه على ناشر إلكتروني أمريكي (كناشر ميكروسوفت أو آبل) يسمح بالنشر العربي، وفي مدونة صنعها الغرب تسمح باستخدام العربية. وإذا فكّر بالترجمة الآلية إلى العربية فسيجد غوغل وغيره من الوسائل الغربية.
اقرأ أيضًا: من كتب غلب ومن رقمن هيمن
جميعها شركات لا تبحث إلا عن الربح. وعندما تصنع لك ناشراً إلكترونياً بالعربية، فليس لـ "إعلاء لغة القرآن"، ولكن لأنها ستبيع لك هذا الناشر وتكسب مقابل ذلك.
وعندما لا تضع إحدى الشركات خدمة بيع كتب بالعربية، فلأنها تعرف أن ذلك غير مربح لها في بلدان تجتاحها الأميّة، ولا يشتري سكانها الكتاب الورقي إلا فيما ندر. فكيف بالكتاب الإلكتروني، وبواسطة بطاقة مصرفية لا يمتلكها أحد هناك تقريباً؟
الأهم: بلداننا العربية هي البلدان الوحيدة التي لا تمتلك لغتُها "قارئاً ضوئياً" O.C.R، يحوّل النص الورقي إلى نص رقمي، رغم الأهمية المركزية لذلك اليوم، التي لا يمكن لكندل أو لأي قارئ إلكتروني، تطوير خدمة للغة لا تمتلك جهازاً مماثلاً.
لأذكّر: القارئ الضوئي برنامج يسمح عند عمل سكانير Scanner لصفحة كتاب بتحويل الصفحة إلى نص رقمي، كما لو كان قد طبِع بناشر إلكتروني كـ Word، وليس إلى مجرد صورة، على غرار صور الـ PDF.
لا مجال للمقارنة بين النص الرقمي وصورته: الأول يمكن التعامل معه ومعالجته كومبيوترياً: معرفة كلماته، ترجمتها، نطقها، تكبير حجمها. فيما صورة الصفحة بـ "سكانير" بدون O.C.R، في أعين الكمبيوتر، ليست أكثر من مجرد شخاطيط.
معظم الكتب التي يقدمها القارئ الإلكتروني تم تحويلها، بفضل القارئ الضوئي للغة الكتاب، من كتب ورقية إلى نصوص رقمية كما لو طبعت بناشر إلكتروني. ومعظمها كتب ظهرت قبل الكمبيوتر.
بطبيعة الحال، يمكن إقحام كتاب عربي بصورة الـ PDF في الكندل، لكن لن تكون له خصائص الكتب الرقمية التي يعرضها القارئ الإلكتروني وابتُكر من أجلها.
كلما أتذكّر، أي معظم الوقت، عدم امتلاك لغتنا لهذا القارئ الضوئي، الذي لم أتوقف عن القول بأهميته المفصلية اللازمة لدخول العربية، العصر الرقمي، أتذكّر أحد الأغنياء العرب الذي عرض على عارضة أزياء سويدية شهيرة مليون دولار لتتناول العشاء معه فقط، ورفضت ذلك!
لا يمكن أن يكون المرء غيوراً على لغة الضاد وهو يرى هذا النقص المهين لها، الذي لم تعمل على ردمه مؤسسة مدنية أو دينية أو دولة أو إنسان، رغم تبذير الملايين في مشاريع تافهة، أو من دون أهمية بهذا المقاس.
لن تتأخر شركة أمازون، وغيرها ممن لا يهمهم غير الربح، ثانية واحدة بالطبع عن إضافة العربية لخدماتهم إذا ما وُجِدَ قارئ ضوئي للعربية. لكن إدخال العربية كخدمة، في ضوء غيابه، أشبه بإهداء جهاز بيانو لامرئ مقطوع اليدين.
في بلدان اللغات المهمة والشعوب الناهضة، ثمّة روبوتات تحوّل ليل نهار، منذ عقود، كل الكتب والمطبوعات الورقية، لا سيما التي ظهرت طوال القرون التي سبقت الكمبيوتر، إلى نصوص رقمية.
ومنذ عقود لم تتوقف المشاريع البحثية عن دراسة هذه النصوص لألف غرض وغرض: تهم المؤرخين وعلماء الاجتماع لدراسة ظواهر تاريخية واجتماعية ومعرفية متنوعة في حياة شعوبهم، بعضها شديدة الجوهرية. وتهم علماء اللغة لدراسة تاريخ مفردات اللغة، والتعرّف الآلي على هذا الكاتب أو ذاك من خصائص مفرداته وأسلوبه، وتحديد النصوص المشكوكِ من كتابتها، ولأغراضٍ مهمة كثيرة أخرى.
عدم امتلاك العربية لقارئ ضوئي يعد ثاني أهم أمراضِها الكبرى في العصر الرقمي، بعد المرض المستديم الأول: غيابها المعرفي.