تلوح في الأفق استراتيجية تتضح مع مرور الأيام لدى النظام السوري، تقوم على تخليه عن المناطق "الميؤوس منها" بالنسبة لحكام دمشق، سكانياً وجغرافياً. وملامح هذه الاستراتيجية تتجلى بوضوح حالياً في كل من ريف حماة والحسكة. وفي حين يبحث النظام السوري نقل دوائر الدولة من محافظة الحسكة إلى العاصمة دمشق، في تعبير صريح عن تسليم المنطقة إلى المليشيات الكردية، يوحي التراجع الغريب لقواته من مناطق ذات غالبية عربية - سنية في ريف حماة، وتدميرها لاحقاً بشكل شبه كامل، بخطوة إضافية لترسيم حدود مناطق النظام، في ما يشبه التقسيم الضمني للأراضي السورية على أسس طائفية وإثنية.
وكانت الفصائل المعارضة، تحديداً قوات جيش النصر، وأهل الشام، وتنظيم جند الأقصى، قد سيطرت، منذ صباح الأربعاء، على حاجز مكاتب صوران، فيما أعلنت أن اشتباكات عنيفة دارت مع قوات النظام، المسيطرة كذلك على حاجز سيرياتيل الواقع في المناطق ذاتها، والتي يشهد محيطها معارك متواصلة منذ يومين. وكانت هذه الفصائل سيطرت، مساء الثلاثاء أيضاً، على حاجزي بطيش والحاجز الكبير، جنوبي حلفايا.
ويطرح هذا التراجع الميداني الكبير والسريع لقوات النظام السوري أمام الفصائل في ريف حماة الشمالي تساؤلات حول السبب الذي يدفع النظام إلى عدم الدفاع بجدية عن مناطق سيطرته هناك، والانسحاب جنوباً نحو مدينة حماة بأرتال كبيرة، بالإضافة إلى غياب أي فاعلية للطيران الحربي السوري والروسي في المعركة واقتصار أثر ضرباته على تهجير السكان الموجودين في البلدات والقرى التي تبسط الفصائل سيطرتها عليها؟
في هذا الصدد، يشير مراقبون محليون لـ"العربي الجديد"، إلى أن ما يجري في المنطقة يمكن أن يوصف بالكارثة الديموغرافية، ذلك أن قصف طائرات النظام السوري وروسيا لبلدات حلفايا وطيبة الإمام وصوران، بعد دخول الفصائل المقاتلة للنظام إليها، تسبب خلال ساعات قليلة بتهجير معظم سكان هذه البلدات شمالاً نحو مناطق سيطرة المعارضة في ريف إدلب الجنوبي. وهو ما يشير بوضوح إلى أن الخط العام لما يجري في ريف حماة يتمحور حول تقدم فصائل جيش النصر وجند الأقصى بسهولة نسبياً إلى البلدات ذات الغالبية العربية السنية، بالتزامن مع انسحاب قوات النظام منها. ويتبع ذلك قصف جوي عنيف يؤدي لتهجير سكان هذه البلدات. في المقابل، تحرص فصائل المعارضة على عدم الاقتراب من البلدات والقرى القريبة التي تسكنها أقليات دينية من غير العرب السنة، كبلدة محردة التي تسكنها غالبية من المسيحيين، وبلدة السقيبلبية القريبة والتي تسكنها غالبية من العلويين والإسماعيليين، وقرية معان التي تسكنها غالبية علوية وغيرها.
وتبرر مصادر الفصائل المشاركة في عملية حماة تجنبّها للمس بالبلدات والقرى التي تسكنها غالبية من الأقليات، بقولها إن أي مهاجمة لهذه المناطق قد تعطي مكاسب سياسية للنظام السوري الذي يدعي حماية الأقليات.
إلا أن المراقبين يقولون لـ"العربي الجديد"، إن اقتصار الهجوم على بلدات العرب السنة يسهم عملياً في إخلاء هذه المنطقة المتنوعة ديمغرافياً منهم. بناءً على ذلك، يوجه المراقبون سؤالاً إلى فصائل المعارضة المعنية، مفاده "ما سيكون موقفهم حين تهاجم قوات النظام بلدات طيبة الإمام وحلفايا وصوران وغيرها ذات الغالبية العربية السنية، وهي المناطق التي سيطرت عليها الفصائل، بعدما تصبح خالية من السكان لتستعيد قوات النظام حينها السيطرة عليها وهي خالية من سكانها؟".
ومن شأن تحقيق هذا الهدف، الذي لا يزال بعيد المنال، أن يؤدي إلى انقلاب المعطيات على الساحة السورية بشكل كامل. ذلك أن قوات الفصائل المعارضة، وفي حال سيطرتها على مدينة حماة بشكل فوري، ستفكر بالوصول إلى بلدة حربنفسه، بريف حماة الجنوبي، الأمر الذي سيعني حينها فك الحصار عن مناطق ريف حمص الشمالي الذي يضم مدينتي الرستن والتلبيسة. وسيجعل قوات المعارضة على بعد خمسة كيلومترات فقط من مدخل مدينة حمص الشمالي مع خط إمداد مفتوح من الحدود السورية التركية إلى تخوم حمص الشمالية.
وفي الحسكة، يبحث النظام نقل دوائر الدولة من المحافظة (أقصى الشرق) إلى دمشق، على خلفية المواجهات التي وقعت أخيراً مع قوات "سورية الديمقراطية" ذات الغالبية الكردية. وقالت الناشطة الإعلامية في الحسكة، لمى الحسكاوي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "هذا النقل قد يشمل السجل المدني والجوازات والمصارف والتربية وغيرها من المؤسسات، ما سيجبر الأهالي للسفر إلى العاصمة في حال احتاجوا لإتمام أي معاملة، علماً أن الطيران، وهو وسيلة النقل الوحيدة التي تربط الحسكة بمناطق النظام، مكلف جداً مقارنة مع دخل الموظف، إذ يصل سعر التذكرة إلى 40 ألف ليرة". وأوضحت الناشطة أن "اجتماعاً عقد في مبنى المحافظة، يوم الاثنين، حضره ممثلو النظام في المحافظة، تم خلاله بحث مسألة نقل المؤسسات، بحجة تزمت الإدارة الذاتية والتصرفات التي تقوم بها المليشيات الكردية، من سيطرة على المناطق ومقار الدولة". وهو ما يرى فيه كثيرون تمهيداً ضمنياً بأن تصبح الحسكة، التي تقطنها تاريخياً غالبية عربية ساحقة، أشبه بـ"عاصمة" الإقليم الكردي، نظراً إلى كونها مدينة كبيرة وبعيدة نسبياً عن الحدود التركية ومجهزة ببنية تحتية لمؤسسات الدولة السورية.