تستبق السينما الأجنبيّة، الهوليوودية تحديداً، أحداثاً وحالاتٍ يشهدها العالم لاحقاً. هذا ليس تنبّؤاً، بل تبصّر فنّي، يعثر في كلِّ راهن ومسار على نتفٍ تعكس شيئاً من الغد. السينما تذهب إلى أحداث وحالات حاصلة، فتكون أفلامٌ لها مداخل إلى عوالم مخفيّة، وتفاصيل مخبّأة، وأحوال ممنوعة من الانكشاف غالباً.
العلاقة القديمة للسينما بالكوارث، الطبيعية والبشرية، مَصنعٌ مليء بكلّ ما يُمكن للسينما أنْ تُنجزه. كوارث الطبيعة والبشر والعلوم والعسكر والأبحاث مسائل تُغذّي سينما تحتاج إلى جديدٍ في آلية الاشتغال، لأنّ المواضيع غير متبدّلة، فالسينما تنهل منها كلّها مراراً. الكوارث جزءٌ من العالم وأحواله ومسالكه وسلوك ناسه. السينما حاضرةٌ، فالصُوَر أقدر على الكشف والبوح والتأثير من كلّ خطاب وقول مباشَرَين. هذا غير متعلّق بسينما تجارية، تستهلك الكوارث لصُنع أفلامٍ تشويقية، تُدرّ أرباحاً تتجاوز، أحياناً عدّة، ميزانياتٍ ضخمة توضع لإنتاج ما يجذب إلى الصالات المعتمة. الصُور الأقدر على الكشف والبوح مُنبثقةٌ من سينما تلتقط حساسية اللحظة وما يؤدّي إليها، وما ينتج منها لاحقاً؛ ومُنجَزةٌ بأدواتٍ تبغي ما يعجز اللسان عن قوله ووصفه؛ ومُتأتيةٌ من شعورٍ فرديّ يريد مواكبة ما يحصل، لاستشراف ما سيحصل ربما، من دون التغاضي عن سابقٍ يُفترَض به أنْ يُساعد على فهمٍ وإدراك، وإنْ يكن الفهم والإدراك مُشوَّشين غالباً.
للخيال العلمي جاذبيّة تتمكّن من التحريض على متعة وارتياح واكتشافاتٍ. ورغم أنّ أفلام خيال علميّ تُحذِّر من المُقبل بكشفها الحاضر، أو بعضه على الأقلّ، تبقى أسيرة التجاريّ الاستهلاكيّ غالباً، مع أنّ بعضها يستند إلى فلسفة وتأمّلاتٍ ومراقبة، ويُعيد صوغ المشهد، ويطرح الأسئلة، انطلاقاً من ارتباك أو اضطراب أو قلق أو خوف أو رغبة في معرفة مُسبقة. المؤثّرات البصرية، التي يُقدّمها تطوّر التقنيات، إضافة بصرية تجمع بين الواقعيّ والغرائبيّ وغير المتوقّع، كأنّها تُنبِّه إلى أنّ الواقعيّ موجودٌ دائماً، وأنّ الغرائبيّ فاعلٌ في الراهن، وأنّ غير المتوقّع يُصبح الأكثر حضوراً وتأثيراً في يومياتٍ تصنع غداً.
فيروس كورونا مثلٌ أخير. أفلامٌ عدّة تقول، قديماً، ما يعيشه العالم اليوم. اقتراحات سينمائية تكشف هول الحاصل في مختبرات، وبعض تلك المختبرات عسكرية/ استخباراتية، كأنّها (الاقتراحات) تلتقط مسبقاً ما يحصل راهناً.
لكنْ، أتتمكّن السينما من إنتاج إضافاتٍ لاحقة، تتخطّى توثيق عيش وارتباك وتساؤلات لأناسٍ مُقيمين في مخاوف الوباء؟ أتقدر السينما على تحويل صُوَرها إلى شهاداتٍ تخرج من البوح الفرديّ إلى جديدٍ غير متوقّع؟ ما الذي تفعله السينما اليوم، بعد 19 عاماً على جريمة الاعتداء على الولايات المتحدّة الأميركية، في 11 سبتمبر/أيلول 2001؟ وثائق ـ سرّية وغير سرّية تنكشف حالياً ـ أفدح من قدرة السينما على "التنبّؤ" بكارثة كهذه، أو على تصوير الكارثة، رغم محاولات عدّة، وبعضها جاذبٌ ومهمّ. تُرى، أتكتفي السينما بفعلٍ يسبق حدثاً، بينما تعجز عن قولٍ لاحقٍ للحدث، لشدّة هول الحدث؟
تساؤلات لا أكثر. انفجار مرفأ بيروت، في 4 أغسطس/آب 2020، كارثةٌ تكشف مزيداً من خرابٍ يعتمل في روح البلد وجسمه، وفي جماعة حاكمة تتعنّت، رغم كلّ شيء، في رفضها المدوّي تحمّل مسؤولياتها الكارثية عن أهوالٍ، يقول الانفجار إنّها (الأهوال) مُرشَّحةٌ لمزيدٍ من الفضائح.