بات الجميع في ألمانيا وأوروبا في انتظار الولادة الحكومية، إثر الاتفاق على إجراء محادثات واسعة، في ظلّ أمل الأوروبيين بتصاعد الدخان الأبيض من برلين، إيذاناً بحلّ الأزمة الحكومية في البلاد، بعد أكثر من شهرين على انتخابات سبتمبر/أيلول الماضي، عقب انتهاء الانتخابات التشريعية. والحديث الدائر حالياً هو عن نسخة جديدة من الائتلاف الكبير بين الأحزاب التقليدية المتمثلة بـ"الاتحاد المسيحي" المكوّن من "المسيحي الديمقراطي" والشقيق الأصغر "الاجتماعي المسيحي" مع "الاشتراكي الديمقراطي"، من دون القدرة على التنبؤ بالنتائج رغم إعلان الطرفين نيتهما الصادقة للسير في مفاوضات تشكيل حكومة اتحادية جديدة، تنهي حال عدم الاستقرار السياسي في برلين.
تأثير الأزمة الحكومية في ألمانيا على التكتل الأوروبي، عبّر عنه صراحة قادة الاتحاد بكثير من القلق، كونه من غير الممكن اتخاذ قرارات بعيدة المدى في بروكسل، في غياب حكومة أقوى اقتصاد في أوروبا والمساهم الرئيسي في ميزانية الاتحاد الأوروبي. القلق مرتبط أساساً بالقرارات المهمّة، التي تحسمها برلين عادة، على غرار ما ستقوم به المفوضية خلال النصف الأول من الشهر المقبل عبر تقديم اقتراحات لإصلاح منطقة اليورو تتضمن ورقة مفصلة حول صندوق الإنقاذ والميزانية وغيرها من المسائل المالية. مع العلم أن رئيس المفوضية الاوروبية جان كلود يونكر، أعلن أن "المفوضية لن تأخذ قسطاً من الراحة خلال هذه الفترة".
بدوره، ينتظر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نهاية الأزمة، ومعرفة مصير المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تحديداً، بعد تقديمه في نهاية سبتمبر الماضي، اقتراحاته حول مستقبل الاتحاد الأوروبي، التي لا يمكن تنفيذها من دون ألمانيا، خصوصاً بسبب تعلّق الأمر بالإنفاق، فضلاً عن قضايا أخرى بينها تمديد العقوبات الأوروبية على روسيا، والتي تنتهي أواخر شهر يناير/كانون الثاني المقبل. بالإضافة إلى إصلاح نظام اللجوء والتعاون العسكري بين دول الاتحاد.
كلها مواضيع من المهم التفاوض حولها أشهراً عدة، لإعادة سيرورة العمل الأوروبي إلى مستواه. مع العلم، أن التحضيرات لانتخابات البرلمان الأوروبي المقررة في ربيع 2019، تبدأ الصيف المقبل، بالتالي لا يمكن لأوروبا أن تنتظر عامين لإجراء الإصلاحات. وهو ما يحظى باهتمام ميركل التي دعت أخيراً وخلال اجتماع لقادة حزبها لتشكيل حكومة مستقرة تكون قادرة على الاستجابة لمقترحات إصلاح الاتحاد الأوروبي، والتعامل مع الأزمات العالمية.
وفي الإطار نفسه طُرح العديد من الأسئلة بينها كيف يمكن العمل على اتفاقية التوسيع الجمركي بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، التي يطالب بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ظل غياب سياسة مشتركة للاتحاد الأوروبي؟ كذلك أيضاً الجمود في مفاوضات مينسك، وهي مبادرة ألمانية في الأساس، حول شرق أوكرانيا التي يحتلها الانفصاليون المؤيدون لروسيا، بعد أن فقدت برلين سياسة قوة الدفع في هذه العمليات الشاقة. وكيف السبيل مع الذين يريدون محاربة قضايا اللاجئين ان يكونوا حاضرين في قضايا الشرق الأوسط وأفريقيا؟
في موازاة ذلك، هناك تفهم ألماني لمواقف الشركاء الأوروبيين في ظل أخطر أزمة تعيشها برلين، فألمانيا صمّام أمان في بيئة أوروبية متقلبة، وساهمت إيجاباً بحلّ الكثير من الأزمات في القارة العجوز، كأزمة اليورو التي مزقت اليونان والجنوب الأوروبي. وجعلت تلك الدول تحت ديون مفرطة بينها إيطاليا وإسبانيا، في ظلّ البطالة الرهيبة في صفوف الشباب، وذلك في وقت كانت فرنسا تعيش فيه حالة طوارئ دائمة ضد الإرهاب الإسلاموي. من هنا يبقى الترقب سيد الموقف لما ستؤول إليه هذه الأزمة، وكيفية انعكاسها على الاستحقاقات الأوروبية، ومنها إيجاد خارطة طريق موثوقة للعمل مع بريطانيا من أجل اجراءات "البريكست".
ولا يخرج الاقتصاد الأوروبي عن هذه الانعكاسات، إذ يتوقف خبراء اقتصاد عند خطورة الوضع في ميزانيات بعض الدول الأوروبية، بينها إيطاليا، نتيجة العجز في الموازنة التي تحتاج إلى نهج من الإصلاح في ظل الأزمة المصرفية، التي من المرجح أن تطغى على المعالجات المالية للبنك المركزي الأوروبي، في ظلّ الخوف من عودة أزمة العملة قريباً إذا لم تتم الإصلاحات في أوروبا.
في المقابل، هناك من لا يرى في ألمانيا "اللاعب الأقوى"، مستندين في ذلك إلى الكثير من النقاط السلبية في سياستها، بينها طريقة معالجة "البريكست" والحدود المفتوحة للمهاجرين والتضييق على اليونان خلال أزمتها المالية وإرغامها على الإصلاحات، معتبرين أن "برلين لطالما كانت تشتري الوقت مع القروض والتسويات ولم ير المواطن الأوروبي أي رؤية واضحة لأوروبا".
ولوحظ تراجع السياسة الألمانية أو مرورها بحالة من الشلل منذ بداية الحملة الانتخابية الصيف الماضي، وهو ما يرى فيه البعض إشارات سلبية حول امكانية تلاشي أو انتهاء دورها على المسرح العالمي أمام بروز دور روسيا القوي مع فلاديمير بوتين والصين مع شي جين بينغ، بينما يراهن آخرون على زعيم الاشتراكي الديمقراطي، مارتن شولتز، الذي عقد النية هو وحزبه لإجراء محادثات مع ميركل بحضور عراب حل الأزمة الحكومية الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، وربما العودة من جديد إلى الائتلاف الكبير. مع العلم أن شولتز قال يوم الأربعاء الماضي، إن "أوروبا بحاجة إلى ادخال تحسينات ملموسة"، داعياً إلى "زيادة الاستثمار وأن يكون العمل من أجل أوروبا قوية هدفاً رئيسياً للحكومة المقبلة".