ويعود كل ذلك إلى السياسات الخاطئة التي اتبعتها الدول الأوروبية مع عدد كبير من دول منطقة البحر المتوسط وشمال أفريقيا، باتكالها على حلول ظرفية، تحديداً تحالفها غير المُعلن مع الأنظمة والديكتاتوريات التي كانت قائمة في تلك الدول. حتى إن الدول الأوروبية قدّمت العديد من الامتيازات لتلك الأنظمة، وحصلت في المقابل على جزء كبير من الثروات في هذه البلدان.
وتؤكد نتيجة المحادثات التي أُجريت مع النظام السوري في عام 2000، لضمّ سورية لاتفاقية "الشراكة الأورومتوسطية" هذا الأمر، فقد برز اعتراض من دول أوروبية على تضمين الاتفاقية مواد مُلزمة للنظام السوري باحترام حقوق الإنسان. كما غضّ الأوروبيون الطرف عن كيفية صرف الأموال الممنوحة من دول الاتحاد الأوروبي من أجل تنمية المناطق الفقيرة وتقديم المساعدة للشباب في سورية، ليقتصر دور الاتفاقية على الاهتمام بالمصالح الاقتصادية والسياسية للدول الأوروبية. ولم ينته الأمر هنا، بل استمرت الشركات الأوروبية في تسليم المواد الكيميائية إلى النظام السوري حتى عام 2011، وهو ما سمح له بتكوين ترسانة من الأسلحة الكيميائية.
ويبدو واضحاً ارتباط الدول الأوروبية لسنوات بمصالح مشتركة مع الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة، تحديداً عن طريق عدم تسليم الأموال التي أودعتها تلك الأنظمة في مصارف أوروبية، والمُفترض أن تعود إلى الشعوب. ولم يتمّ السماح حتى الآن باسترداد جزء كبير منها لأسباب متعددة. ولم تُغيّر الشركات الأوروبية من طريقتها في التعامل مع أفريقيا، القائمة على الزبائنية والفساد والرشوة لتحقيق طموحات ومصالح الحزب والعائلة الحاكمة، كما تفعل الشركات الأوروبية المتخصصة بإنتاج الطاقة، في النيجر ومالي، على سبيل المثال لا الحصر.
اقرأ أيضاً: إسبانيا المتأزمة مقصداً لهجرة الشباب العربي والأفريقي
ولم تكن الدول الأوروبية تضع في الحسبان إمكانية سقوط تلك الأنظمة، ففي ليبيا مثلاً، كان نظام العقيد معمّر القذافي يستغلّ ورقة "الهجرة غير الشرعية" مع الأوروبيين، بحجة أنه يعمل على مكافحتها. و"كوفئ" على ذلك حين منحه الاتحاد الأوروبي تراخيص لتصدير الأسلحة في عام 2009، بمبلغ يقارب 386 مليون دولار.
كما وقّعت الشركات على معاهدة "الصداقة والشراكة والتعاون" مع دول شمال أفريقيا في أغسطس/آب 2008، التي تضمّنت "الحدّ من تدفق اللاجئين من الحدود الليبية إلى إيطاليا". ووافقت حينها إيطاليا على دفع خمسة مليارات دولار للحصول على المزيد من إمدادات الغاز والنفط في شمال أفريقيا، مقابل زيادة التعاون في عملية إعادة لاجئي القوارب من أوروبا إلى شمال أفريقيا. ولم يتم البحث في حينه عن "تعاون نموذجي"، عبر تنظيم عمليات حراسة يقوم بها خفر السواحل، كما هو حاصل اليوم بين المغرب وإسبانيا، ويتمّ من خلالها إنقاذ آلاف الأشخاص.
أما فيما يتعلق بشبكات تهريب البشر، فإن سياسة "الأبواب المفتوحة" التي اتبعها القذافي تجاه اليد العاملة في الدول الأفريقية، حوّلت سواحل ليبيا إلى محطة مرغوبة للمهاجرين غير الشرعيين، والتي ساهمت في زيادة نشاط شبكات التهريب. وهذا ما سمح للنظام الليبي حينها بابتزاز الدول الأوروبية والاستمرار في الاعتراف به دولياً، مفضلة الاستقرار البيروقراطي على التحول التدريجي نحو الديمقراطية. وتسبّب دعم الاقتصاد الأوروبي لمنتجاته الزراعية وأسواقه التجارية، والرسوم الجمركية المرتفعة، عائقاً إضافياً أمام بيع إنتاج الدول الأفريقية الزراعي إلى أوروبا، وزيادة نسبة البطالة الأفريقية.
كما لا يُخفى على أحد أن بعض رجال الأعمال المحميين وشركاء الأنظمة الحاكمة في هذه الدول تواطأت مع المصارف، وحصلت على قروض، وقاموا بتهريب الأموال إلى الخارج، تحديداً إلى بعض الدول الأوروبية. ولم يُدقق في مصادر تلك الأموال، ولم يتم استثمارها في البلدان الأوروبية، كما ساهمت في إفقار الشعب نتيجة عمليات النهب المنظم، والتسبب بالعجز في الميزان التجاري. وفي رأي العديد من المراقبين، فإن ما تقوم به أوروبا حالياً في منطقة البحر الأبيض المتوسط، ليس فقط تعبيراً عن عدم الاستقرار في المنطقة، بل يُمثل نداءً عاجلاً لتحمّل المسؤولية المشتركة.
في المقابل، يشير خبراء إلى أنه "على الدول الأوروبية إدراك أنه لا يجب أن يكون التعاون فقط عبر الدول، بل عبر مؤسسات المجتمع المدني، التي تمّ تجاهلها عمداً، إرضاءً لبعض النافذين ومصالحهم الانتخابية والاقتصادية". وذكروا أن "المطلوب مساعدة اقتصادات الدول الأفريقية والآسيوية عبر المساهمة في عملية التنمية، وزيادة التبادل التجاري، خصوصاً أن العديد منها تتمتع بالكثير من المقدرات والثروات. كما يُمكن القيام باستثمارات ناجحة، وتبنّي مشاريع متوسطة وصغيرة، ونقل الخبرة إلى جيل الشباب في دولهم".
واعتبر الخبراء أن "تخصيص الأموال لتلك القطاعات أفضل من صرفها على بناء الأسوار والمخيمات للاجئين، واعتماد سياسة الردع، والتي عادة ما تطبق عندما يتواجه خصمان مسلحان، وليس في حالات هجرة مواطنين ليس لديهم ما يخسرونه في بلدانهم".
اقرأ أيضاً: هجرة الأفارقة.. حكايات الإذلال والموت