كرّس "أوسلو" أفقاً ضيّقاً لحل النزاع عبر الاتفاق مبدئياً، وفق نصوص مذكرة الاتفاق المرحلي، على إقامة سلطة وطنية لكيان فلسطيني يتمتع بنوع موسع من الحكم الذاتي، في أقل من دولة، وفق التعبير الذي استخدمه رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق رابين، عند عرض الاتفاق على الكنيست للمصادقة عليه في السادس من أكتوبر/تشرين الأول من العام 1995، وذلك بعد توقيع بروتوكول باريس واتفاق القاهرة بشأن "غزة ـ أريحا أولاً"، واتفاق نقل الصلاحيات من إسرائيل إلى السلطة الوطنية الفلسطينية.
وأعلن رابين في حينها، أن هدف الاتفاق هو منع تحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية، عبر إقامة "كيان مستقل هو دون الدولة إلى جانب دولة إسرائيل". وأكد أنه لن تكون هناك عودة إلى حدود العام 1967، والإبقاء على "القدس موحّدة" مع ضمّ الكتل الاستيطانية وضمان حدود آمنة لإسرائيل في غور الأردن.
ويمكن القول اليوم، وبأثر رجعي، إنه على الرغم من اغتيال رابين بعد شهر من تلك الجلسة، وصعود اليمين المتطرف برئاسة رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو، الذي عارض الاتفاق آنذاك، إلا أن اليمين لم يسارع إلى إلغائه، بل إن نتنياهو نفسه واصل عملية التفاوض مع الفلسطينيين ووقّع، بعد عامين، على اتفاق الخليل مع تحديد ثلاث "نبضات" لإكمال عمليات الانسحاب الإسرائيلي من المدن الفلسطينية، التي تم تعريفها كمناطق (أ) تخضع لسيطرة فلسطينية كاملة، فيما ظلت باقي أراضي الضفة خاضعة للسيطرة الأمنية والمدنية الإسرائيلية، وصولاً إلى اتفاق "واي ريفر" في 23 أكتوبر/تشرين الأول في العام 1998، الذي شكل أول انكسار في معسكر اليمين الإسرائيلي، إذ قاد إلى انسحاب اليمين المتطرف من حكومة نتنياهو وإسقاطها، والذهاب إلى انتخابات جديدة فاز فيها إيهود باراك، لتعود السلطة إلى معسكر اليسار للمرة الأخيرة منذ ذلك التاريخ.
حقق "أوسلو"، في صيغته الأولى، مكسباً لإسرائيل تمثل أولاً في إنهاء المفاوضات الدولية المتعددة في مدريد، وكرّس فصل الوفد الفلسطيني ـ الأردني المشترك آنذاك إلى وفدين منفصلين، ذاهباً بالمفاوضات إلى المسار الأمثل إسرائيلياً، وهو الانفراد بكل طرف عربي من دون أن يكون هناك أي رابط أو تأثير لما يحدث في مسارات التفاوض على باقي المسارات.
حقق أوسلو لإسرائيل كل ما كانت تريده: مفاوضات مباشرة تتحول فيها "القضية" الفلسطينية إلى مسألة تخص الفلسطينيين والإسرائيليين وحدهم دون علاقة لباقي الأطراف العربية، وصار مستقبل الجولان أمراً سورياً ـ إسرائيلياً، وكأن سقوط الجولان كان بفعل خلاف سوري ـ إسرائيلي لا علاقة له بأساس الصراع، وانعكس الأمر نفسه على المسار الأردني ـ الإسرائيلي.
حرصت إسرائيل، طوال الوقت، بالرغم من إعلان رفض اليمين للاتفاق، على إبقاء شعلة أوسلو متقدة، ومعها أيضاً الأمل بالوصول إلى اتفاق سلام، حتى لا يقود إلغاء الاتفاق إلى وقف المفاوضات على المسارات الأخرى، والعودة إلى المربّع الأول الذي فرّت منه إسرائيل، وهو المطالبة بمؤتمر دولي للسلام مع ضمانات دولية. في العموم، يعطي الاتفاق لدولة الاحتلال أكثر مما يأخذ منها بكثير، فمن خلاله:
حصلت إسرائيل على اعتراف فلسطيني بحقّها في الوجود، مقابل اعتراف بحصرية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً وحيداً للشعب الفلسطيني.
انتهى العداء العربي، المعلن، لإسرائيل، واستُبدل بمفاوضات ثنائية مع سورية بجولات متكررة، حتى اندلاع الثورة السورية عام 2011، في حين وقّع الأردن على اتفاق ومعاهدة سلام مع إسرائيل.
أنهى العرب سلاح المقاطعة، وخاضوا في سيناريوهات الشرق الأوسط الجديد، واختفى مصطلح "الوطن العربي" وصار الحديث عن "الشرق الأوسط الجديد" و"حوض المتوسط"، وصولاً إلى الحديث عن محور "الدول المعتدلة" والتحالفات وتقاطع المصالح الجديد، الذي يسعى نتنياهو لتكريسه مع الدول العربية، بغية جرها إلى الوقوف علناً ضد "حماس" والمقاومة الفلسطينية.
وفّر الاتفاق على مدار السنين العشرين الماضية لإسرائيل، شرعية دولية مكّنتها من مواصلة مشروعها الاستيطاني على امتداد سنوات التفاوض، وشرعية دولية وتأييداً أميركياً مع صمت عربي لإعادة احتلال مدن الضفة الغربية، في عدوان "السور الواقي" عام 2002، ومحاصرة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بحجة محاربة "الإرهاب".
وعلى مدار كل هذه التغييرات والتطوّرات، بين جولات ومفاوضات وخارطة طريق ورسالة بوش، لم تفكر إسرائيل يوماً بإلغاء أوسلو، لأن الاتفاق شكل شبكة أمان لها في الحديث عن استعدادها الدائم للوصول إلى تسوية مع الفلسطينيين، ولكن مع مضاعفة شروطها والتشدد فيها. حديث عن مفاوضات لا يُفضي إلى شيء، مع تكثيف البناء في المستوطنات، وتسريع مخططات تهويد القدس المحتلة.
وبذلك، ارتفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس المحتلة من نحو 60 ألفاً قبل اتفاق أوسلو، إلى مئة ألف بعد توقيع الاتفاق، وصولاً إلى نحو 600 ألف مستوطن في العام 2012.
زاد اتفاق أوسلو، بعد فشل "محاولات التسوية"، التي قادها كل من إيهود باراك في كامب ديفيد، والانفصال عن غزة تحت قيادة رئيس الوزراء السابق آرييل شارون، ومفاوضات أنابوليس في عهد حكومة ايهود أولمرت، من الانعطاف المستمرّ نحو اليمين، وازدياد قوة أحزاب اليمين المتدينة مثل "شاس" و"يهدوت هتوراة" و"المفدال"، مع تراجع قوة اليسار الإسرائيلي، وتكريس قاعدة عدم اعتماد أية حكومة على تأييد عربي في الكنيست ولو من خارج الائتلاف الحكومي، حتى لا تتكرر تجربة حكومة رابين. وسيطر اليمين على الحكم في إسرائيل بشكل متواصل بعد فترة قصيرة لحكم رابين انتهت باغتياله، وعامين آخرين بين 98 ـ 2001 في عهد باراك.
اتجه المجتمع الإسرائيلي إلى اليمين، ليس فقط في الحقل السياسي، بل أيضاً في الحقل الديني الصهيوني، وتجلّى ذلك في الانتخابات الأخيرة في العام 2013 بنجاح حزب "البيت اليهودي" في الحصول على 12 مقعداً في الكنيست، و15 مقعداً للأحزاب الحريدية، فضلاً عن دخول عدد آخر من نواب الكنيست المتدينين في أحزاب علمانية مثل "الليكود" وحتى "ييش عتيد".
ولعل أهم ما حققه أوسلو هو اقتناع الإسرائيليين بأن حكوماتهم المتعاقبة، منذ التوقيع على اتفاق المبادئ بما في ذلك حكومات نتنياهو الأولى والثانية والحالية، وحكومة باراك، وحكومة شارون وحكومة أولمرت، حاولت الوصول إلى تسوية لكن الرفض كان يأتي دوماً من الطرف الفلسطيني، وهو ما عزز وساهم في استمرار النزوح نحو اليمين، وتسجيل تراجع في مواقف أساسية لليسار الإسرائيلي بواجب الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية مثلاً، وعدم الانسحاب إلى حدود ما قبل الرابع من يونيو/حزيران، وبناء إجماع بشأن تبادل الأراضي والتعديلات الحدودية كأمر لا مفر منه في أي اتفاق مستقبلي.
واليوم، يواصل اتفاق أوسلو خدمة المصالح الإسرائيلية، تحديداً الأمنية منها عبر الالتزام الكامل للسلطة الفلسطينية بالتنسيق الأمني مع الاحتلال. كما يتيح الالتزام الفلسطيني في اتفاق المبادئ لإسرائيل مواصلة السيطرة على الموارد الطبيعية والمياه في الضفة الغربية.
وعملياً، فإن إسرائيل لم تبقِ من اتفاق أوسلو سوى على موضوع التنسيق الأمني، كأحد أهم الانجازات التي حققها الاتفاق لها، فهو يحوّل عملياً، وباعتراف الإسرائيليين أنفسهم، السلطة الفلسطينية إلى وكيل يتعهد بحماية أمن الاحتلال ومنع أي انتفاضة فلسطينية ثالثة، وباختصار يجعل الاحتلال مجدياً اقتصادياً وحتى عسكرياً.