12 نوفمبر 2024
أوضاع عدن.. صورة تختزل مستقبل الصراع في اليمن
مرّ عامان منذ إعلان قوات التحالف العربيّ والحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا عن تحرير مدينة عدن تحريرًا كاملًا من المتمردين الحوثيين. وكان متوقعًا أن يمثّل تحرير المدينة نقطة تحوّل في مسار الصراع في اليمن، إلى جهة هزيمة الحوثيين وقوات الرئيس السابق علي عبد الله صالح المتحالفة معهم، وإعادة تفعيل مؤسسات الدولة قبيل عودة الحكومة إلى العاصمة صنعاء. لكنْ عوضًا عن ذلك، عاشت عدن، وما تزال، حالةً من الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي والأمني، وتحولت، في الأشهر الماضية، إلى ساحة صراع على النفوذ، بين قوى داخلية وخارجيّة متباينة التوجهات والأجندات؛ الأمر الذي أفقدها زخم التحرير، ومميزات إعلانها "عاصمة موقتة" إداريًا.
عدن بعد "عاصفة الحزم"
تحظى عدن بأهمية إستراتيجية كبيرة في حسابات القوى المتنافسة ضمن المشهد اليمني؛ ففضلًا عن موقعها الجغرافي الحيوي، وإطلالها على خليج عدن وبحر العرب. وهي تُعدُّ العاصمة الاقتصاديّة لليمن، وثاني أهم مدينة بعد صنعاء. وبالنظر إلى البعد التاريخي والرمزي للمدينة، بوصفها عاصمة دولة "اليمن الجنوبي" التي انتهت مع قيام الوحدة عام 1990، احتضنت المدينة، منذ عام 2007، حراكًا احتجاجيًا رفع شعاراتٍ طالبت بحل "المسألة الجنوبيّة"، ورفع المظالم السياسية والاقتصاديّة التي نجمت عن النهج الإقصائي للحكومات السابقة. وفي ضوء ذلك، انضم "الحراك الجنوبي" إلى الثورة اليمنية الشعبيّة منذ اندلاعها في شباط/ فبراير 2011، وشاركت قيادته الحزبية والسياسية في الحوار الوطني الشامل عام 2013، ومنه انبثقت طلائع مقاومة مسلحة تصدّت، مطلع عام 2015، لمحاولات مليشيا الحوثي اقتحام المدينة، بوصفها حصن "الشرعية" الأخير بعد انتقال الرئيس عبد ربه هادي إليها، وإعلانها عاصمة موقتة.
وقد أعلنت السعودية عن عملية عاصفة الحزم، وأسست، في 26 آذار/ مارس 2015، تحالفًا عسكريًا ضم دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، باستثناء عُمان، إضافة إلى باكستان وأربع دول عربية أخرى؛ هي مصر، والسودان، والمغرب، والأردن. وقد وضع التحالف الذي حظي بغطاء من جامعة الدول العربية نصب عينيه استعادة الشرعية، ونزع سلاح الحوثيين بعد انسحابهم من العاصمة صنعاء. وقد منحت قوات التحالف العربي تحرير عدن والمناطق الجنوبيّة أولوية عسكريّة، ونجحت بعد إنزال قوات مدرّبة على سواحل المدينة، في طرد الحوثيين منها، واتخذتها قاعدة انطلاقٍ لتحرير بقية المحافظة الجنوبيّة. وبعد عودة الرئيس هادي وأعضاء حكومته إليها، ونقل البنك المركزي إليها، ساد تفاؤلٌ لدى شرائح واسعة من الشعب اليمني باقتراب دحر انقلاب الحوثي. لكن الوقائع جاءت مخالفة للآمال؛ فمع نهاية عملية عاصفة الحزم وانطلاق عملية إعادة الأمل، تبين، بفعل عوامل مختلفة، أن الشرعية اليمنيّة عاجزة، ولا تحظى بالدعم لتأمين استقرار أمني وسياسي مستدام في المدينة، فضلًا عن وضع العراقيل التي تحول دون ترميم هذه الحكومةِ لذاتها.
انحراف المسار
في إطار التنسيق وتقاسم المهمات بين دول التحالف، أنيط بدولة الإمارات مسؤولية الإشراف على عدن وباقي المحافظات الجنوبيّة، وكانت مساهمتها العسكرية فيها هي الأكبر. لكن أبوظبي حرصت على رسم المشهد بما يوائم توجهاتها السياسيّة والأيديولوجية، واجترحت، في أحيان كثيرة، سياسات تتعارض مع الاتجاهات العامة والأهداف المعلنة لعملية عاصفة الحزم. تعمّدت الإمارات استبعاد حزب التجمع اليمني للإصلاح القريب فكريًا من مدرسة الإخوان المسلمين، وسعت بدايةً إلى استقطاب السلفيين، خارج الأطر العسكريّة الرسمية، لتشكيل ما سميت قوات الحزام الأمنيّ التي أوكلت إليها مهمة تأمين عدن ومحيطها. وسارت على النهج ذاته في حضرموت، وتعز، وشبوة، بتأليف "كتائب نخبة" تابعة لها، ورفضت، غير مرة، ضم هذه التشكيلات إلى الجيش الوطني.
وفي موازاة ذلك، استثمرت الإمارات في فصيلٍ مسلح تابع للرئيس الجنوبي السابق؛ علي سالم البيض، كان يتلقى دعمًا ماليًا وعسكريًا من إيران (وتدريبًا من حزب الله اللبناني)، ومكّنته من مفاصل الأجهزة الأمنية والعسكرية والإدارية في عدن والمحافظات الجنوبية، بعد تعيين رموزه في مناصب حسّاسة، من أبرزها تعيين عيدروس الزبيدي محافظًا لعدن، وشلال شايع مديرًا للأمن فيها. وأدّى هذا التيار الذي ينتمي معظم أفراده إلى منطقة الضالع وردفان دور رأس الحربة في مناهضة الرئيس هادي وحكومته في عدن، وقد تجلى ذلك في مظاهر مختلفة، من قبيل رفض تنفيذ قرارته، ومقاومة نشر قوات الحماية الرئاسية التابعة في المدينة. وقد بلغت مناكفتهم الرئيس هادي حدًا منعوا به هبوط طائراته في مطار عدن.
مجلس انتقالي جنوبي
أدى تجرؤ رموز التيار الجنوبي "الانفصالي" على الرئيس هادي إلى تأجيج الخلاف بين الأخير ودولة الإمارات، وفاقم تردّي الأوضاع الأمنية والاقتصادية، ومشكلة البنك المركزي، والاغتيالات التي نالت ناشطين ومسؤولين كبارًا، من أبرزهم محافظ عدن السابق، اللواء جعفر محمد سعد، من حالة الصراع في المدينة، وصلت إلى حدّ المواجهة المسلحة بين ألوية الحماية الرئاسية من جهة والحراك الجنوبي وقوات الحزام الأمني من جهة ثانية. وفي هذه الأوضاع، جاءت قرارات الرئيس هادي، في 27 نيسان/ أبريل 2017، إقالةَ محافظ عدن، عيدروس الزبيدي، ووزير الدولة هاني بن بريك، مع إحالة الأخير إلى التحقيق؛ لتحمل، في طياتها، اعتراضًا واضحًا على النهج الإماراتي في عدن، إذ يوصف هاني بن بريك بأنه رجل الإمارات في عدن.
وفي خطوةٍ جديدة، تنسف مخرجات مؤتمر الحوار الوطني بشأن المسألة الجنوبية، وتفقد الحكومة اليمنية أبرز مقوّمات شرعيتها في مواجهة انقلاب الحوثي، أعلن الزبيدي عن تأليف ما سمِّي "المجلس الانتقالي الجنوبيّ"، مكوَّنًا من 26 شخصية جنوبيّة؛ لتولي إدارة "جنوب اليمن" وتمثيله، وهو ما عدّته الرئاسة اليمنية خروجًا على التوافق الوطني، ومحاولة انقلاب تشبه انقلاب الحوثي عام 2014.
وفي لهجة تحمل تحذيرًا مبطنًا للإمارات، طالب رئيس الوزراء اليمني، أحمد عبيد بن داغر، التحالف العربي بوقف العبث في عدن، ومعالجة مشكلاتها، قائلًا، في 12 أيار/ مايو 2017؛ إن "عدن وأزمتها اليوم إما أن تكون بدايةً لمعالجة المشكلات، أو بداية لهزيمة سوف تكبر مع الأيام". لكن محافظ عدن الجديد؛ عبد العزيز المفلحي، كان أشدّ وضوحًا؛ إذ طالب، في 4 آب/ أغسطس 2017، الإمارات بالتعامل مع الحكومة الشرعيّة ومن فيها بوصفهم "شركاء حقيقيين"، والتخلي عن تقسيم اليمنيين أو تصنيفهم إلى "كانتونات". وكشف بيان البنك المركزي اليمني، في 13 آب/ أغسطس 2017، عن أوجه أخرى للصراع داخل المدينة؛ إذ اتهم البنك القوات الإماراتية، أو ما سماها "خلية التحالف" التي تسيطر على مطار عدن، بإعاقة البنك عن أداء وظائفه بعد أن منعت، من دون مبرر أو تفسير واضح، دخول النقود الجديدة التي طُبعت في روسيا؛ ما ترك تداعياته على الاقتصاد اليمني، وخصوصا في مجال دفع مرتبات الموظفين في الجهاز الإداري للدولة.
تساؤلات عن الدور الإماراتي
يتنامى انطباع لدى قطاعات كبيرة من الشعب اليمني أن تحرّكات الإمارات في اليمن لا تتوافق مع الهدف الرئيس للتحالف العربي؛ وهو إنهاء الانقلاب واستعادة الدولة، بل تسعى أبو ظبي إلى تحقيق مصالحها الخاصة في السيطرة على المواقع الإستراتيجية والحيوية في اليمن، وخصوصا السواحل والممرّات المائية الدولية المطلة عليها أو القريبة منها، وكذلك الجزر التي تقع فيها، وذلك في إطار سعيها إلى التحول إلى قوة إقليمية تحتاج إليها الولايات المتحدة، وتتعامل معها على هذا الأساس. فالقوات الإماراتية، بعد عامين ونصف العام منذ انطلاق "عاصفة الحزم"، غدت تسيطر على السواحل اليمنية من المكلا شرقًا إلى المخا غربًا، إضافة إلى جزر سقطرى وميون في باب المندب. وتذهب تفسيراتٌ إلى أن الإمارات، منذ سنوات، وضعت السيطرة على السواحل اليمنية في قائمة أولوياتها، تعويضًا عن ما خسرته بعد إلغاء حكومة الوفاق الوطني في عام 2012 اتفاقية تأجير ميناء عدن لشركة دبي، نتيجة تخلي الأخيرة عن التزاماتها، وهو ما يعدّه بعضهم أحد الدوافع الرئيسة إلى ضغط أبوظبي على الرئيس هادي؛ لتغيير محافظ عدن (المفلحي)؛ كونه يعارض بشدة توجهاتها في عدن على وجه التحديد، واليمن عامة.
تداعيات الفشل
في المجمل، أفرز الإخفاق في إدارة عدن وبقية المحافظات الجنوبيّة تداعيات كبيرة، حالت دون تحوّل عدن إلى قاعدةٍ ونقطة إسنادٍ رئيسة للعمليات العسكرية الرامية إلى تحرير بقية المحافظات اليمنية، وساهمت في إضعاف السلطة الشرعية التي تمثل عنوانًا في الجهود السياسية والعسكرية لمواجهة انقلاب الحوثي، والمسوّغ الشرعي لاستمرار أعمال التحالف العربي في اليمن.
وما يثير الاستغراب أن الأحداث والصراعات داخل عدن والمحافظات الجنوبية عادةً ما تتصاعد وتزداد، كلما تحرّكت وحدات الجيش الوطني شمالًا باتجاه العاصمة صنعاء. وقد برز ذلك جليًا في معركة الحديدة ذات الأهمية الإستراتيجية؛ ففي وقت كانت تضع فيه الحكومة اليمنية، بدعم من بعض دول التحالف، الترتيبات الأخيرة لاستعادة ميناء الحديدة الحيوي (آخر منفذ في يد جماعة الحوثي وقوات صالح على الساحل اليمني)، تفجّر الخلاف بين الرئيس هادي ومحافظ عدن السابق؛ ما ساهم في إفشال تلك الترتيبات. ليس هذا فحسب، بل إن الانقسام والتوتر، داخل مدينة عدن، يهدّد باندلاع مواجهة مسلحة واسعة النطاق في عدن والمحافظات الجنوبيّة؛ الأمر الذي من شأنه أن ينسف المكتسبات السياسية والعسكريّة التي حققتها "عاصفة الحزم"، ويساهم في إطالة أمد الحرب، وزيادة المعاناة الإنسانية للشعب اليمني، تزامنًا مع زيادة نسبة الفقر والمجاعة وانتشار الكوليرا والأمراض الأخرى.
وعلى صعيد آخر، حرمت عدن، بسبب الفشل في توفير الأمن وسيطرة المليشيات إضافة إلى تراجع الخدمات الحكومية الأساسية (الكهرباء، المياه، المشتقات النفطية)، من تقديم نموذج جاذب للمناطق المحرّرة، يمكن من خلاله إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتثبت أقدام الحكومة لمزاولة عملها في الداخل وفتح السفارات والقنصليات لتعزيز شرعيتها في الخارج.
خاتمة
نتيجة اختلاف أجندات الحلفاء في التحالف العربي، واحتدام التنافس بين الفرقاء المحليين؛ لم يؤت تحرير عدن ثماره المتوقعة سياسيًا وعسكريًا. وبدل أن تقدّم المدينة نموذجًا لمستقبل اليمن، أضحى واقعها المليء بالصراعات والخلافات يستخدم دليلًا على "فشل" التحالف العربي في تحقيق الأهداف الرئيسة لعاصفة الحزم، وبرهانًا على عجز الحكومة الشرعية، وإفشال اضطلاعها بمهماتها في إدارة المناطق المحرّرة. وفوق ذلك، ساهم تنامي النزعات الانفصاليّة الداعية إلى نأي عدن عن المسار السياسي والعسكري للصراع القائم في عموم اليمن، في إذكاء الصراعات ذات الطبيعة الجهوية ضمن المحافظات الجنوبية ذاتها، وتحديًدا بين ردفان وأبين؛ الأمر الذي يهدّد وحدة اليمن الجغرافية ونسيجه الاجتماعي، ويدفع به نحو مزيد من الصراع والفوضى والتشظّي.
عدن بعد "عاصفة الحزم"
تحظى عدن بأهمية إستراتيجية كبيرة في حسابات القوى المتنافسة ضمن المشهد اليمني؛ ففضلًا عن موقعها الجغرافي الحيوي، وإطلالها على خليج عدن وبحر العرب. وهي تُعدُّ العاصمة الاقتصاديّة لليمن، وثاني أهم مدينة بعد صنعاء. وبالنظر إلى البعد التاريخي والرمزي للمدينة، بوصفها عاصمة دولة "اليمن الجنوبي" التي انتهت مع قيام الوحدة عام 1990، احتضنت المدينة، منذ عام 2007، حراكًا احتجاجيًا رفع شعاراتٍ طالبت بحل "المسألة الجنوبيّة"، ورفع المظالم السياسية والاقتصاديّة التي نجمت عن النهج الإقصائي للحكومات السابقة. وفي ضوء ذلك، انضم "الحراك الجنوبي" إلى الثورة اليمنية الشعبيّة منذ اندلاعها في شباط/ فبراير 2011، وشاركت قيادته الحزبية والسياسية في الحوار الوطني الشامل عام 2013، ومنه انبثقت طلائع مقاومة مسلحة تصدّت، مطلع عام 2015، لمحاولات مليشيا الحوثي اقتحام المدينة، بوصفها حصن "الشرعية" الأخير بعد انتقال الرئيس عبد ربه هادي إليها، وإعلانها عاصمة موقتة.
وقد أعلنت السعودية عن عملية عاصفة الحزم، وأسست، في 26 آذار/ مارس 2015، تحالفًا عسكريًا ضم دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، باستثناء عُمان، إضافة إلى باكستان وأربع دول عربية أخرى؛ هي مصر، والسودان، والمغرب، والأردن. وقد وضع التحالف الذي حظي بغطاء من جامعة الدول العربية نصب عينيه استعادة الشرعية، ونزع سلاح الحوثيين بعد انسحابهم من العاصمة صنعاء. وقد منحت قوات التحالف العربي تحرير عدن والمناطق الجنوبيّة أولوية عسكريّة، ونجحت بعد إنزال قوات مدرّبة على سواحل المدينة، في طرد الحوثيين منها، واتخذتها قاعدة انطلاقٍ لتحرير بقية المحافظة الجنوبيّة. وبعد عودة الرئيس هادي وأعضاء حكومته إليها، ونقل البنك المركزي إليها، ساد تفاؤلٌ لدى شرائح واسعة من الشعب اليمني باقتراب دحر انقلاب الحوثي. لكن الوقائع جاءت مخالفة للآمال؛ فمع نهاية عملية عاصفة الحزم وانطلاق عملية إعادة الأمل، تبين، بفعل عوامل مختلفة، أن الشرعية اليمنيّة عاجزة، ولا تحظى بالدعم لتأمين استقرار أمني وسياسي مستدام في المدينة، فضلًا عن وضع العراقيل التي تحول دون ترميم هذه الحكومةِ لذاتها.
انحراف المسار
في إطار التنسيق وتقاسم المهمات بين دول التحالف، أنيط بدولة الإمارات مسؤولية الإشراف على عدن وباقي المحافظات الجنوبيّة، وكانت مساهمتها العسكرية فيها هي الأكبر. لكن أبوظبي حرصت على رسم المشهد بما يوائم توجهاتها السياسيّة والأيديولوجية، واجترحت، في أحيان كثيرة، سياسات تتعارض مع الاتجاهات العامة والأهداف المعلنة لعملية عاصفة الحزم. تعمّدت الإمارات استبعاد حزب التجمع اليمني للإصلاح القريب فكريًا من مدرسة الإخوان المسلمين، وسعت بدايةً إلى استقطاب السلفيين، خارج الأطر العسكريّة الرسمية، لتشكيل ما سميت قوات الحزام الأمنيّ التي أوكلت إليها مهمة تأمين عدن ومحيطها. وسارت على النهج ذاته في حضرموت، وتعز، وشبوة، بتأليف "كتائب نخبة" تابعة لها، ورفضت، غير مرة، ضم هذه التشكيلات إلى الجيش الوطني.
وفي موازاة ذلك، استثمرت الإمارات في فصيلٍ مسلح تابع للرئيس الجنوبي السابق؛ علي سالم البيض، كان يتلقى دعمًا ماليًا وعسكريًا من إيران (وتدريبًا من حزب الله اللبناني)، ومكّنته من مفاصل الأجهزة الأمنية والعسكرية والإدارية في عدن والمحافظات الجنوبية، بعد تعيين رموزه في مناصب حسّاسة، من أبرزها تعيين عيدروس الزبيدي محافظًا لعدن، وشلال شايع مديرًا للأمن فيها. وأدّى هذا التيار الذي ينتمي معظم أفراده إلى منطقة الضالع وردفان دور رأس الحربة في مناهضة الرئيس هادي وحكومته في عدن، وقد تجلى ذلك في مظاهر مختلفة، من قبيل رفض تنفيذ قرارته، ومقاومة نشر قوات الحماية الرئاسية التابعة في المدينة. وقد بلغت مناكفتهم الرئيس هادي حدًا منعوا به هبوط طائراته في مطار عدن.
مجلس انتقالي جنوبي
أدى تجرؤ رموز التيار الجنوبي "الانفصالي" على الرئيس هادي إلى تأجيج الخلاف بين الأخير ودولة الإمارات، وفاقم تردّي الأوضاع الأمنية والاقتصادية، ومشكلة البنك المركزي، والاغتيالات التي نالت ناشطين ومسؤولين كبارًا، من أبرزهم محافظ عدن السابق، اللواء جعفر محمد سعد، من حالة الصراع في المدينة، وصلت إلى حدّ المواجهة المسلحة بين ألوية الحماية الرئاسية من جهة والحراك الجنوبي وقوات الحزام الأمني من جهة ثانية. وفي هذه الأوضاع، جاءت قرارات الرئيس هادي، في 27 نيسان/ أبريل 2017، إقالةَ محافظ عدن، عيدروس الزبيدي، ووزير الدولة هاني بن بريك، مع إحالة الأخير إلى التحقيق؛ لتحمل، في طياتها، اعتراضًا واضحًا على النهج الإماراتي في عدن، إذ يوصف هاني بن بريك بأنه رجل الإمارات في عدن.
وفي خطوةٍ جديدة، تنسف مخرجات مؤتمر الحوار الوطني بشأن المسألة الجنوبية، وتفقد الحكومة اليمنية أبرز مقوّمات شرعيتها في مواجهة انقلاب الحوثي، أعلن الزبيدي عن تأليف ما سمِّي "المجلس الانتقالي الجنوبيّ"، مكوَّنًا من 26 شخصية جنوبيّة؛ لتولي إدارة "جنوب اليمن" وتمثيله، وهو ما عدّته الرئاسة اليمنية خروجًا على التوافق الوطني، ومحاولة انقلاب تشبه انقلاب الحوثي عام 2014.
وفي لهجة تحمل تحذيرًا مبطنًا للإمارات، طالب رئيس الوزراء اليمني، أحمد عبيد بن داغر، التحالف العربي بوقف العبث في عدن، ومعالجة مشكلاتها، قائلًا، في 12 أيار/ مايو 2017؛ إن "عدن وأزمتها اليوم إما أن تكون بدايةً لمعالجة المشكلات، أو بداية لهزيمة سوف تكبر مع الأيام". لكن محافظ عدن الجديد؛ عبد العزيز المفلحي، كان أشدّ وضوحًا؛ إذ طالب، في 4 آب/ أغسطس 2017، الإمارات بالتعامل مع الحكومة الشرعيّة ومن فيها بوصفهم "شركاء حقيقيين"، والتخلي عن تقسيم اليمنيين أو تصنيفهم إلى "كانتونات". وكشف بيان البنك المركزي اليمني، في 13 آب/ أغسطس 2017، عن أوجه أخرى للصراع داخل المدينة؛ إذ اتهم البنك القوات الإماراتية، أو ما سماها "خلية التحالف" التي تسيطر على مطار عدن، بإعاقة البنك عن أداء وظائفه بعد أن منعت، من دون مبرر أو تفسير واضح، دخول النقود الجديدة التي طُبعت في روسيا؛ ما ترك تداعياته على الاقتصاد اليمني، وخصوصا في مجال دفع مرتبات الموظفين في الجهاز الإداري للدولة.
تساؤلات عن الدور الإماراتي
يتنامى انطباع لدى قطاعات كبيرة من الشعب اليمني أن تحرّكات الإمارات في اليمن لا تتوافق مع الهدف الرئيس للتحالف العربي؛ وهو إنهاء الانقلاب واستعادة الدولة، بل تسعى أبو ظبي إلى تحقيق مصالحها الخاصة في السيطرة على المواقع الإستراتيجية والحيوية في اليمن، وخصوصا السواحل والممرّات المائية الدولية المطلة عليها أو القريبة منها، وكذلك الجزر التي تقع فيها، وذلك في إطار سعيها إلى التحول إلى قوة إقليمية تحتاج إليها الولايات المتحدة، وتتعامل معها على هذا الأساس. فالقوات الإماراتية، بعد عامين ونصف العام منذ انطلاق "عاصفة الحزم"، غدت تسيطر على السواحل اليمنية من المكلا شرقًا إلى المخا غربًا، إضافة إلى جزر سقطرى وميون في باب المندب. وتذهب تفسيراتٌ إلى أن الإمارات، منذ سنوات، وضعت السيطرة على السواحل اليمنية في قائمة أولوياتها، تعويضًا عن ما خسرته بعد إلغاء حكومة الوفاق الوطني في عام 2012 اتفاقية تأجير ميناء عدن لشركة دبي، نتيجة تخلي الأخيرة عن التزاماتها، وهو ما يعدّه بعضهم أحد الدوافع الرئيسة إلى ضغط أبوظبي على الرئيس هادي؛ لتغيير محافظ عدن (المفلحي)؛ كونه يعارض بشدة توجهاتها في عدن على وجه التحديد، واليمن عامة.
تداعيات الفشل
في المجمل، أفرز الإخفاق في إدارة عدن وبقية المحافظات الجنوبيّة تداعيات كبيرة، حالت دون تحوّل عدن إلى قاعدةٍ ونقطة إسنادٍ رئيسة للعمليات العسكرية الرامية إلى تحرير بقية المحافظات اليمنية، وساهمت في إضعاف السلطة الشرعية التي تمثل عنوانًا في الجهود السياسية والعسكرية لمواجهة انقلاب الحوثي، والمسوّغ الشرعي لاستمرار أعمال التحالف العربي في اليمن.
وما يثير الاستغراب أن الأحداث والصراعات داخل عدن والمحافظات الجنوبية عادةً ما تتصاعد وتزداد، كلما تحرّكت وحدات الجيش الوطني شمالًا باتجاه العاصمة صنعاء. وقد برز ذلك جليًا في معركة الحديدة ذات الأهمية الإستراتيجية؛ ففي وقت كانت تضع فيه الحكومة اليمنية، بدعم من بعض دول التحالف، الترتيبات الأخيرة لاستعادة ميناء الحديدة الحيوي (آخر منفذ في يد جماعة الحوثي وقوات صالح على الساحل اليمني)، تفجّر الخلاف بين الرئيس هادي ومحافظ عدن السابق؛ ما ساهم في إفشال تلك الترتيبات. ليس هذا فحسب، بل إن الانقسام والتوتر، داخل مدينة عدن، يهدّد باندلاع مواجهة مسلحة واسعة النطاق في عدن والمحافظات الجنوبيّة؛ الأمر الذي من شأنه أن ينسف المكتسبات السياسية والعسكريّة التي حققتها "عاصفة الحزم"، ويساهم في إطالة أمد الحرب، وزيادة المعاناة الإنسانية للشعب اليمني، تزامنًا مع زيادة نسبة الفقر والمجاعة وانتشار الكوليرا والأمراض الأخرى.
وعلى صعيد آخر، حرمت عدن، بسبب الفشل في توفير الأمن وسيطرة المليشيات إضافة إلى تراجع الخدمات الحكومية الأساسية (الكهرباء، المياه، المشتقات النفطية)، من تقديم نموذج جاذب للمناطق المحرّرة، يمكن من خلاله إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتثبت أقدام الحكومة لمزاولة عملها في الداخل وفتح السفارات والقنصليات لتعزيز شرعيتها في الخارج.
خاتمة
نتيجة اختلاف أجندات الحلفاء في التحالف العربي، واحتدام التنافس بين الفرقاء المحليين؛ لم يؤت تحرير عدن ثماره المتوقعة سياسيًا وعسكريًا. وبدل أن تقدّم المدينة نموذجًا لمستقبل اليمن، أضحى واقعها المليء بالصراعات والخلافات يستخدم دليلًا على "فشل" التحالف العربي في تحقيق الأهداف الرئيسة لعاصفة الحزم، وبرهانًا على عجز الحكومة الشرعية، وإفشال اضطلاعها بمهماتها في إدارة المناطق المحرّرة. وفوق ذلك، ساهم تنامي النزعات الانفصاليّة الداعية إلى نأي عدن عن المسار السياسي والعسكري للصراع القائم في عموم اليمن، في إذكاء الصراعات ذات الطبيعة الجهوية ضمن المحافظات الجنوبية ذاتها، وتحديًدا بين ردفان وأبين؛ الأمر الذي يهدّد وحدة اليمن الجغرافية ونسيجه الاجتماعي، ويدفع به نحو مزيد من الصراع والفوضى والتشظّي.