حين وضع الكاتب السويدي أوغست ستريندبرغ (1849 - 1912) ثلاثيته المسرحية "إلى دمشق"، اعتبر النقاد أنه ابتكر أسلوباً غير مسبوق في الكتابة للخشبة، إذ تخلّص من "وحدة الفعل" وابتكر "وحدة الذات" بتعبير المحلل النفسي الهنغاري بيتر تسوندي.
تقوم المسرحية على رحلة شخص يركب القطار ويمرّ خلالها في عدة محطات، ثم يعود في الطريق المعاكس ليمر بالمحطات نفسها. الذين يلتقيهم أثناء الرحلة هم ليسوا شخصيات، بل مجرد أنماط من البشر والأفكار يمر عليها وينتهي وجودها بعبوره للمحطة الأخرى. هؤلاء ليس لهم وجود خارج حياة العقل التي تعيش فيها الشخصية الرئيسية طيلة الرحلة، والتي فسرها كثيرون برحلة عودة المؤلف إلى المسيحية، واعتبرها المحللون النفسيون طريقة أدبية مبتكرة لتحليل الذات.
كان ستريندبرغ، الذي تمرّ ذكرى ميلاده اليوم، متخوّفاً من المسرحية ومدركاً للخرق الذي قام به فيها. بعد أن أمضى في كتابتها خمسة أعوام أرسلها إلى الروائي السويدي غيورستام، وكتب له: "إذا وجدتها جيدة خذها إلى المسرح، وإن كان ذلك مستحيلاً، اخفِها تماماً".
أتت "إلى دمشق" في مرحلة متفوقة من عمله بدأت مع مسرحية "الأستاذ أولوف" (1872)، فكل ما سبق هذا العمل اعتبر من أضعف ما كتب ستريندبرغ مثل "المفكر الحر" و"في روما". لم يكن عرض "الأستاذ أولوف" أمراً يسيراً، فقد جاءت الموافقة بعد عدة تعديلات، لا سيما أنها عمل درامي تاريخي يتناول الصراع ضد الكنيسة الكاثوليكية في القرن السابع عشر.
ظل سترندبيرغ يجدد على المسرحية مع كل عرض، وأدهش الأوساط المهتمة بجرأته على إدخال العامية في الحوار وتحديث السينوغرافيا والبعد عن المثالية التي اتسم بها المسرح في ذلك الوقت.
ولستريندبرغ أيضاً الفضل في ابتكار "مسرح الحجرة" و"مسرحية الفصل الواحد"، كما أنه أدخل المذهب الطبيعي إلى الكتابة المسرحية، وعمل على تمكين أساسياته من خلال التقشف الجمالي وإظهار الواقع كما هو، بل التخلص من فكرة الفصول التي كان يراها سطحية بلا ضرورة. ظهر ذلك في عمليه "الدائنون" و"الآنسة جوليا" ذوَي الموضوع الشائك والجريء آنذاك، إذ تناول التعقيدات التي تتبع العلاقة الجنسية، من مشاعر مؤلمة يمتزج فيها الذنب بالخوف.
كتب صاحب "رحلات بيتر المحظوظ" نوعاً مختلفاً من المسرح أيضاً، فقدّم أعمال الفانتازيا والحكايات الخرافية. وفي مسرحية "حلم"، وضع الشخصيات كلها في مكعب مثبت على قاعدة تسمح للممثلين بالتقلب بين أوجه المكعب، مستنداً في حواراتها إلى أدبيات التحليل النفسي وتفسير الأحلام في تلك الفترة (1901).
وفي تقديمه لها، شرح أنه "لا يوجد وقت أو مكان، حيث يعزل الخيال ناسجاً أنماطاً جديدة على قاعدة ضعيفة من الحقيقة: مزيجاً من الذكريات والتجارب والتداعيات الحرة والحماقات والارتجالات. يتفكك الشخوص ويضعفون ويتضاعفون ويتبخرون ويتكثّفون ويذوبون ويندمجون. لكن وعياً واحداً يحكمهم جميعاً: الحالم".
لكن ما صنع شهرة ستريندبرغ وساعده على الاستمرار حقاً، رغم إفلاسه والرفض الشديد الذي واجهه في بلاده والذي أصبح يعرف بين المثقفين والساسة بـ"عداء ستريندبرغ"، هو شهرته الروائية الكبيرة التي انتشرت بسرعة في أوروبا بعد أن كتب رواية "الغرفة الحمراء".
ووصفت الصحافة الإسكندنافية والأوروبية الكاتب بـ"العبقري"، معتبرة أن العمل أدخل الرواية السويدية إلى عصر الحداثة، وأنها حد فاصل بين ما كتب قبلها وما سيكتب بعدها. رغم ذلك، استقبلتها الأوساط الثقافية ببرود في استوكهولم، بسبب مواقف صاحبها المنتقدة للملكية والكنيسة والتي عبّر عنها في كتبه "الشعب السويدي" و"تعاليم أوغست ستريندبرغ الضئيلة للطبقة العاملة" حتى وصل أشدّه في "المملكة الجديدة"، الذي طرد على إثره من البلاد فعاش ما بين سويسرا وألمانيا وفرنسا.
هذا العداء الذي استمر حتى آخر أيامه، قابله حب السويديين لكاتبهم المثير للمتاعب، فلم يحدث في تاريخ جائزة "نوبل" سوى مرة واحدة، أن اعترض السويديون وبادروا إلى جائزة أطلقوا عليها "ضد - نوبل" ليقدموها إلى ستريندبرغ الذي استبعدته لجنة الجائزة من الترشيح في 1909.
هكذا، توجهت مسيرة من 15 ألف شخص إلى منزل المسرحي والروائي والشاعر والرسام والخيميائي (كان يحاول صناعة الذهب) بعد أن جمعوا 300 ألف دولار وقدموها باسم "جائزة الشعب" إلى المؤلف الذي منحها بدوره لجمعيات العاطلين عن العمل.
كان كاتب "من جانب البحر المفتوح" صاحب قلب مجنون مثل المجانين العظام، مثل صديقه نيتشه، الذي بدأ معه مراسلات وصفت بأنها من أكثر رسائل الأدباء والمفكرين إثارة للاهتمام. وقد بدأها نيتشه بالطلب إلى ستريندبرغ أن يساعده في أن يترجم كتابه "إنسان مفرط في إنسانيته" إلى لغات أخرى، ثم توالت بينهما المكاتبات حتى أوقفها الأخير، وكان واضحاً فيها تأثر مؤلف "اعترافات مجنون" الكبير بنيتشه، حتى أنه كتب له في إحدى الرسائل: "عقلي رحِمٌ يحبل بما تقول وتفكر".
كثيراً ما دخل ستريندبرغ في فترات طويلة من الكآبة والبارانويا اللتين شكلتا جحيمه النفسي. وصف إحدى نوباتها على نحو مرير حين قال: "أشعر أنني أصم أبكم، أحياناً أقف وسط الغرفة السجن، أريد أن أصرخ حتى تتهدم الجدران والسقف، ولدي الكثير مما أستطيع أن أصرخ بسببه، لكنني أظل صامتاً".